A+ A-
الإسلام السياسي في خدمة التوسع الإمبريالي (*)

2008-09-11

سمير أمينترجمة : انتصار العزيزي
مراجعة : نزار نيوف

تنادي التيارات التي تتبنى الإسلام السياسي ، كلها ، بـ"خصوصية الإسلام". وبحسب هذه التيارات فإن الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة، الأمر الذي يفترض تميزه عن الديانة المسيحية. ولن يضيرنا تذكير هؤلاء، كما فعلت أنا شخصيا ، بأن ملاحظاتهم منسوخة ، كلمة كلمة تقريباً، عن ردود الفعل التي شهدتها أوربا في بدايات القرن التاسع عشر (حالة "بونالد" و "دو ميستير" ، مثلا ) في سياق إدانتها التمزق الذي أنتجته الثورة الفرنسية و " الأنوار" في تاريخ "الغرب المسيحي" (1 ).

وعلى أساس هذا الموقف، فإن كل تيار من تيارات الإسلام السياسي يختار إدارة صراعه على أرضية الثقافة . هذا ولو أن " الثقافة" تقلصت في الواقع الفعلي إلى مجرد توكيد مبتذل على الانتماء إلى دين معين. وفي الحقيقة، فإن مناضلي الإسلام السياسي ليسوا معنيين في الواقع بمناقشة العقائد التي تشكل الدين. وتقتصر طقوس تأكيد العضوية في المجتمع على حصرية انشغالهم. ولا تعتبر مثل هذه الرؤية حول واقع العالم الحديث محبطة بسبب الفراغ الهائل في التفكير بأنها مخفية، بل أيضاً لانها تبرر الإستراتيجية الإمبريالية في إحلال ما يسمى بصراع الحضارات بين المراكز الإمبريالية وبلدان الأطراف الخاضعة لهيمنتها. وسمح التركيز الحصري على الثقافة للإسلام السياسي بالتخلص من كافة مناحي الحياة الإجتماعية الحقيقية التي تؤدي إلى المواجهات بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسمالي العالمي الذي يضطهدها ويستغلها. ولا يملك مجاهدو الإسلام السياسي أي حضور حقيقي في المجالات التي تأخذ فيها الصراعات الإجتماعية مكانا لها، حيث يكرر قادتهم أن مثل هذه الصراعات غير مهمة. ويحضر الإسلاميون في هذه المناحي فقط لافتتاح مدارس ومراكز صحية لا تمثل في واقع الحال سوى عمل خيري أو تعليمي ، وهي ليست وسائل دعم للطبقات الشعبية الكادحة في مواجهة النظام المسؤول عن فقرهم.

وعلى أرضية القضايا الإجتماعية الحقيقية يضع الإسلام السياسي نفسه في معسكر الرأسمالية التابعة والإمبريالية المهيمنة. فهو يدافع عن مبدأ الطابع المقدس للملْكية ، ويشرعن اللامساواة وجميع متطلبات إعادة الإنتاج الرأسمالي . ويعتبر الدعم الذي قدمه الأخوان المسلمون في البرلمان المصري [ العام الماضي] للقوانين الرجعية التي تعزز حقوق مالكي العقارات على حساب حقوق المزارعين المستأجرين ( وأغلبيتهم من الفلاحين الصغار) مجرد مثال واحد من بين مئات الأمثلة على ذلك . والواقع ليس ثمة مثال حتى على قانون رجعي واحد في أي من الدول الإسلامية تعارضه الحركات الإسلامية . أكثر من ذلك ؛ إن مثل هذه القوانين يتم سنها بالإتفاق مع قادة النظام الإمبريالي . فالإسلام السياسي ليس ضد الإمبريالية ، حتى وإن كان أتباعه يفكرون على غير هذا النحو ! وهو حليف ثمين للإمبريالية ، وهذه المعلومة جرى إدراكها مؤخراً. وهكذا يسهل فهم لماذا كان يضع الإسلام السياسي اعتماده دائماً على الطبقة الحاكمة في المملكة العربية السعودية وباكستان. حتى أن هذه الطبقات كانت من أكثر المروجين له منذ البدايات. كما دعم الإسلام السياسي بقوة كلا من البورجوازيات الكومبرادورية المحلية والأثرياء الجدد والمستفيدين من العولمة الإمبريالية الراهنة. وقد تخلى مؤخراً عن مناهضة الإمبريالية واستعاض عنها بموقف مناهضة الغرب (الذي يعني غالبا " مناهضة المسيحية" )، والذي من الواضح أنه يقود المجتمعات إلى طريق مسدود ، لكنه لا يشكل عقبة أمام انتشار الامبريالية وسيطرتها على النظام العالمي.

ولا يعتبر الإسلام السياسي رجعيا فقط فيما يتعلق بمسائل محددة (خصوصاُ المتعلقة بوضع المرأة)، بل ربما كان هو المسؤول أيضا عن التجاوزات المتعصبة التي تمارس ضد المواطنين من غير المسلمين (مثل الأقباط في مصر) ؛ الأمر الذي يعتبر في أساس الرجعية . ولذلك من الواضح أن الإسلام السياسي لا يستيطع المشاركة في عملية تحرير الشعوب.

وعلى الرغم من ذلك ثمة ثلاث حجج رئيسة تشجع الحركات الاجتماعية ككل على الدخول في نقاش مع حركات الإسلام السياسي. الأولى هي قدرة الإسلام السياسي على القيام بتعبئة شعبوية واسعة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها. والعديد من الصور الحالية تعزز على نحو مؤكد هذا الإدعاء. ومع هذا ، يجب على المرء التأني عند التعاطي مع قضية " التعبئة " . فـ " النجاحات" الإنتخابية التي تم تحقيقها تأخذ مكانها الصحيح حالما تخضع للتحليل الدقيق . وأذكر هنا، على سبيل المثال، أن نسبة الإمتناع عن التصويت وصلت إلى أكثر من 75 في المئة (!) في الانتخابات المصرية الأخيرة . فقوة الشارع الإسلامي ، في جانبها الأكبر، هي ببساطة الوجه الآخر وحسب لضعف اليسار المنظم الغائب عن المجالات التي تحصل فيها وحولها الصراعات الاجتماعية الراهنة.

وحتى إذا كان هناك اتفاق على أن الاسلام السياسي لديه القدرة على تعبئة أعداد كبيرة فعلا، فهل هذا يبرر الاستنتاج بأن على اليسار السعي إلى إدراج منظمات الإسلام السياسي في سياق تحالفاته من أجل العمل السياسي أو الاجتماعي؟ وإذا نجح الإسلام السياسي في تعبئة أعداد كبيرة من الناس، وهذا هو الواقع ببساطة ، فإن على أي استراتيجية سياسية فاعلة أن تأخذ هذا الواقع بعين الإعتبار في بحثها وتحديد أطروحاتها وخياراتها. إلا أن السعي إلى إقامة تحالفات [ مع الإسلام السياسي] ليس بالضرورة أفضل الوسائل للتعامل مع هذا التحدي . وهنا تجدر الإشارة إلى أن منظمات الإسلام السياسي- والأخوان المسلمين بالتحديد - لا تسعى إلى هكذا تحالفات، بل ترفضها في الواقع . وإذا صودف أن توصل بعض المنظمات اليسارية إلى الإعتقاد ، مع الأسف ، بأن تنظيمات الإسلام السياسي قد قبلتها كشريك ، فإن أول قرار ستأخذه الأخيرة بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة هو التخلص من عبء هذه التحالفات وتصفية هذا اليسار بعنف شديد، كما حصل في إيران مع "مجاهدين خلق " و"فدائيين خلق" [ فضلا حن حزب " توده " الشيوعي ].

أما السبب الثاني الذي طرحه مناصرو "الحوار" فيقول إن الاسلام السياسي، حتى وإن كان رجعيا لجهة الأطروحات الاجتماعية ، فهو "مناهض للامبريالية". وقد سمعت أنه أشير إلى أن المعيار الذي أقترحه أنا في هذا الصدد (الدعم غير المشروط للكفاح من أجل التقدم الإجتماعي) إنما هو معيار "اقتصادوي economistic" يهمل الأبعاد السياسية للتحديات التي تواجه شعوب الجنوب. من جهتي ، لا اعتقد أن هذا النقد صحيح فيما يتعلق بما قلته عن الديمقراطيه والأبعاد الوطنية للردود المطلوبة من أجل معالجة هذه التحديات.

كما أنني أوافق على أن الممارسة العملية التي تقوم بها قوى الإسلام السياسي في سياق ردها على التحديات التي تواجه شعوب الجنوب، لا تتسق بالضرورة مع نهجها في التعامل مع الأبعاد الاجتماعية والسياسية. وبالتالي من الممكن أن نتصور أن الاسلام السياسي هو مناهض للإمبريالية، رغم تراجعه عن الركب الإجتماعي. وهنا يتبادر إلى الذهن على الفور كل من إيران و"حماس" في فلسطين و "حزب الله " في لبنان، إلى جانب بعض حركات المقاومة في العراق. وهذه الحالات سأناقشها بالتفصيل لاحقاً. لكن ما أود تبيانه هو أن الاسلام السياسي ككل هو ، ببساطة متناهية، ليس مناهضاً للإمبريالية ، وإنما يصطف كلياً وراء القوى المهيمنه على الصعيد العالمي.

الحجة الثالثة تسترعي انتباه اليسار إلى ضرورة مكافحة ظاهرة "الخوف من الإسلام" ( الـ Islamophopia ). إن أي يسار جدير باسمه لا يستطيع تجاهل قضية الضواحي la question des Banlieues ، أي المعاملة التي تلاقيها الطبقات الشعبية من أصول مهاجرة في حواضر الرأسماليه المتطورة المعاصرة. وتبقى جميع التحليلات وردّات الفعل التي تبديها المجموعات المختلفة حول هذا التحدي ، (الأحزاب المعنية نفسها ،اليسار الانتخابي الأوربي ، واليسار الراديكالي) ، خارج موضوع هذا النص . وسأكتفي هنا بإبداء وجهة نظري من حيث المبدأ : لا يمكن أن تقوم الإستجابة المتدرجة على أساس إضفاء الطابع المؤسساتي على المشتركية communitarianism (2) التي ترتبط حتماً وبالضرورة مع عدم المساواة ، وتعمل في نهاية المطاف على إرساء ثقافة عنصرية . والواقع ثمة ناتج أيديولوجي معين لثقافة الولايات المتحدة السياسية الرجعية ، وأعني المشتركية communitarianism التي سبق أن انتصرت في بريطانيا العظمى ، بدأ بتلويث الحياة السياسية في القارة الأوروبية. فالخوف من الإسلام، الذي يروج منهجيا من قبل أقسام هامة من النخبة السياسية والإعلام ، هو جزء من إستراتيجية لإدارة تنوع المجتمع لصالح رأس المال، بالنظر لأن هذا الاحترام المزعوم للتنوع هو في واقع الحال مجرد وسيلة لتعميق الانقسامات داخل الطبقات الشعبية..

ويقود تحديد مسألة ما يسمى مشكلة الجيران( أو الضواحي banlieues) وخلطها بمسألة الإمبريالية (على سبيل المثال الإدارة الامبريالية للعلاقات بين المراكز الإمبرياليه المهيمنه وسائر المحيطات المهيمَن عليها)، وكما يحدث أحيانا، إلى عدم إحراز أي تقدم على أي من هذه الأراضي المختلفة. ويعتبر هذا الخلط جزءاً من أدوات الرجعية ويعزز ظاهرة الخوف من الإسلام، الذي بدوره، يجعل من الممكن إضفاء الشرعية على الهجوم ضد الطبقات الشعبية في المراكز الإمبريالية والهجوم ضد شعوب المناطق المهيمين عليها، على حد سواء. ويوفر هذا الخلط وظاهرة الخوف من الإسلام ، بدورهما ، قيمة خدماتية للإسلام السياسي الرجعي، ويمنح المصداقية للخطاب المعادي للغرب. وهنا أقول إن الحملتين الأيديولوجيتين الرجعيتين المسوّقتين ، على التوالي ، من قبل كل من اليمين العنصري في الغرب والإسلام السياسي، تؤازر إحداهما الآخرى على نحو متبادل ، وذلك بالضبط لأنهما تناصران الممارسات المشتركية.

الحداثة، الديمقراطية، العلمانية والإسلام

تنبثق الصورة التي تقدمها المناطق العربية والإسلامية عن نفسها اليوم من المجتمعات التي يعتبر الدين (الإسلام) فيها حاضراً في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية؛ وذلك إلى الحد الذي يبدو معه من الغريب التمييز بينهما. وقد خلصت غالبية المراقبين الأجانب (الزعماء السياسيين ووسائل الإعلام) إلى أن الحداثة، وربما الديمقراطية، يجب عليها التكيف مع الوجود القوي للإسلام، بقوة الأمر الواقع De Facto الذي يعوق العلمانية. فإما أن تصبح هذه المصالحة ممكنة وسيكون من الضروري دعمها، أو أنها غير ممكنة وسيكون من الضرورى التعامل مع هذه المنطقة من العالم كما هي. أنا لا أوافق على الإطلاق هذه النظرية التي تسمى "الرؤية الواقعية". فالمستقبل- من وجهة نظر الإشتراكية العالمية البعيدة- هو لشعوب هذه المنطقة كما هو للآخرين، وهو ديمقراطي وعلماني. وعلى الرغم من أن هذا المستقبل ممكن في هذه المناطق كما في أي مكان أخر، إلا أنه لا يوجد أي ضمانات أو تأكيد في أي مكان.

تشكل الحداثة، التي بدأت في أوربا خلال القرن السادس عشر ، انقطاعا أو قطيعة (Rupture) في التاريخ العالمي. وتدعي الحداثة أن البشر ، أفرادا وجماعات ، مسؤولون عن تاريخهم ، وبالتالي القطع مع الأيديولوجيات ما قبل الحداثية المسيطرة. فالحداثة، إذن، تجعل الديمقراطية ممكنة، مثلما تطالب بالعلمانية، من خلال فصل الدين عن السياسة. وبعد تكوينها من قبل حركة الأنوار في القرن الثامن عشر، وتطبيقها من قبل الثورة الفرنسية، شكل الجمع بين الحداثة والديمقراطية والعلمانية، بتقدمه وتراجعه، ملامح العالم المعاصر منذ ذلك الحين. إلا أن الحداثة في حد ذاتها ليست فقط ثورة ثقافية، فهي تستمد معناها فقط من خلال العلاقة الوثيقة التي انبثقت لدى ولادة ونمو الرأسمالية المتسارع. هذه العلاقة اشترطت الحدود التاريخية لـ"الوجود الواقعي" للحداثة. ويجب اعتبار الأشكال المادية للحداثة والديمقراطية والعلمانية، إذن، نواتج محددة من التاريخ المادي لنمو الرأسمالية. وهذه النواتج تتشكل في ظروف محددة تكون فيها هيمنة رأس المال واضحة – حيث المساومات التاريخية التي تحدد المضامين الاجتماعية للكتل المهيمنة (وهو ما أُطلقُ عليه "السياق التاريخي للثقافات السياسية ").

هذا العرض المكثف لفهمي الطرقَ المادية َ التاريخية َهو ببساطة للاستشهاد بالطرق المختلفة للجمع بين الحداثة الرأسمالية، والديمقراطيه والعلمانية في سياقها النظري.

طرحَت حركةُ الأنوار والثورة الفرنسية نموذجا للعلمانية الراديكالية. فللفرد ( في حالتنا هنا المعني هو " المسيحية " ) حرية الإختيار بين أن يكون ملحدا أو لا أدريا ، ربوبيا أو مؤمنا ، أما الدولة فليس لها أن تعلم شيئا عن ذلك. وفي القارة الأوروبية ، كما في فرنسا مع بداية الثورة ، مثلت التراجعات والمساومات ، التي جمعت ما بين سلطتي البرجوازية والطبقات المسيطرة في أنظمة ما قبل الحداثة، قاعدة لأشكال مخففة من العلمانية تُفهم على أنها تسامح، دون استبعاد الدور الاجتماعي للكنائس من النظام السياسي. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد أفضى مسارها التاريخي الخاص إلى تشكيل ثقافة رجعية على نحو أصولي لا وجود للعلمانية الحقيقية فيها. فالدين هنا معترف به كفاعل اجتماعي ، أما العلمانية فتختلط بتعددية في الأديان الرسمية (أي دين – أو حتى طائفة – هو رسمي !).

ثمة صلة واضحة بين درجة صلابة العلمانية الراديكالية ودرجة دعم تشكيل المجتمع بالتوافق مع الموضوع المركزي للحداثة. ويمثل اليسار ، سواء أكان راديكاليا أم معتدلا، والذي يؤمن بفعالية السياسة في توجيه التطور الاجتماعي في اتجاهات مختارة، المدافع القوي عن مفاهيم العلمانية. هذا بينما يدعي اليمين المحافظ أنه ينبعي السماح للأمور بأن تتطور بنفسها سواء أكانت القضية اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. فعلى الصعيد الاقتصادي يبقى " السوق " ، دون ريب ، الخيار المفضل لرأس المال. أما على المستوى السياسي فإن الديمقراطية "منخفضة القوة" تصبح هي القاعدة ، ويستعاض عن تداول السلطة ببديل من الصنف السياسي نفسه . وفي المجتمع ، وضمن السياق نفسه ،لا تحتاج السياسة إلى علمانية فعالة ، فـ " المشتركات " communities (2 /مكرر) تعوض عن عجز الدولة. هذا بينما يتولى السوق والديمقراطية التمثيلية صناعة التاريخ ، ويتوجب أن يسمح لهما القيام بذلك ! وفي اللحظة الراهنة من انسحاب اليسار، تسود النسخة المحافظة من الفكر الإجتماعي على نطاق واسع، حيث تستدرج الصياغات من أفكار تورين Touraine و نيغريNegri (3). وتذهب الثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة حتى إلى أبعد من ذلك في إنكار مسؤولية العمل السياسي. فتكرار التأكيد الغبي على أن الله يلهم الأمة "الأميركية"، والإلتزام الكبير بهذا "الإيمان"، يقلص مفهوم العلمانية الفعلية ليوصلها إلى ...لا شيء. والقول إن الله يصنع التاريخ هو، في الواقع، من أجل السماح للسوق وحده القيام بذلك.

أين تقع شعوب منطقة الشرق الأوسط من وجهة النظر هذه؟
تقود صورة الرجل الملتحي ذي القامة المنحنية ومجموعة النساء المحجبات إلى استنتاجات متسرعة حول حجم الإلتزام الديني للأفراد. فالأصدقاء الغربيون " الثقافويون Culturalist " ، الذين يدعون إلى احترام المعتقدات على اختلافها ، نادرا ما يرون الإجراءات التي تنفذها السلطات لتقديم صورة تكون مريحة لهم. هناك بالتأكيد " مجانين الله " (fous de Dieu) ، ولكن هل هم ، نسبيا ، أكثر عدداً من الكاثوليك الإسبان الذين يسيرون في مواكب عيد الفصح، أو من الحشود الهائلة التي تستمع لمبشري أجهزة التلفزيون في الولايات المتحدة [ كما يجري عندنا مع يوسف القرضاوي وعمرو خالد وقبلهما متولي شعراوي ]؟

على أية حال، لم تقدم هذه المنطقةُ نفسَها على هذه الصورة دائما . فبعيدا عن الاختلافات بين بلدانها ثمة إمكانيات لايمكن الاستخفاف بها لتطور العلمانية في هذه المنطقة الممتدة من المغرب إلى أفغانستان ، بما في ذلك الشعوب العربية جميعها ( باستثناء شبه الجزيرة العربية ) ، و الأتراك والأرمينيون والأفغان وشعوب جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية السابقة . هذا ولو أن الوضع يختلف بالنسبة للشعوب المجاورة الأخرى ، سواء في شبه الجزيرة العربية [ دول الخليج] أم باكستان .

لقد طـُبعت التقاليد السياسية في هذه المنطقة الواسعة على نحو قوي بالتيارات الحداثية الراديكالية : فأفكار الأنوار، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية وشيوعية " الأممية الثالثة " كانت حاضرة في أذهان الجميع ، وكانت ، على سبيل المثال ، أكثر أهمية بكثير من الحياة البرلمانية في قصر ويستمنستر [ مجلسي العموم واللوردات البريطانيين] . وقد ألهمت هذه التيارات المهيمنة النماذج الرئيسة للتحول السياسي الذي قامت به الطبقات الحاكمة ، والتي يمكن وصفها، من بعض جوانبها، بأنها أشكال من الاستبداد المستنير.

هذا بالتأكيد ما كان عليه حال مصر في زمن محمد علي أو الخديوي إسماعيل ، وكذلك حال "الكمالية" [ نسبة لكمال أتاتورك] في تركيا وعملية التحديث في إيران، الشبيهتين بهما. وتنتمي الشعبوية الوطنية في مراحل التاريخ الأخيرة الى عائلة المشاريع السياسية الحداثوية نفسها. وأشكال هذا النموذج عديدة ، ( "جبهة التحرير الوطني الجزائرية "، و "البورقيبية" التونسيه، و "الناصرية" المصرية، و "البعثية " في سوريا والعراق) ، إلا أن اتجاهها العام كان واحدا . ومن الواضح أن التجارب المتطرفة - المسماة أنظمة شيوعية في جنوب اليمن سابقا وأفغانستان - لم تختلف كثيرا في واقع الأمر. وهذه الأنظمة جميعها أنجزت الكثير؛ ولهذا السبب كانت تمتلك تأييداً شعبياً كبيراً. ولهذا أيضاً، وعلى الرغم من أنها لم تكن ديمقراطية في الواقع، فتحت الطريق لتطور ديمقراطي ممكن في هذا الاتجاه. وفي ظروف معينة، كتلك التي كانت موجودة في مصر خلال الأعوام 1920 - 1950، كان مجرد محاولة إجراء انتخابات ديمقراطية ، بدعم من مركز الإعتدال المناهض للإمبريالية (حزب الوفد)، يواجَه بمقاومة السلطة الإمبريالية (بريطانيا العظمى) وحلفائها المحليين (القصرالملكي ). والعلمانية ، التي طبقت بأشكال معتدلة ، لم يجر " رفضها " من قبل الشعب.

في الواقع ، لم تكن التجارب الحداثوية ، من الاستبداد المستنير إلى الشعبوية الوطنية الراديكالية، منتجات المصادفة ، بل نتاج الحركات القويه التي كانت تهيمن في أوساط الطبقات الوسطى . وبهذه الطريقة عبرت تلك الطبقات عن رغبتها في أن ينظر إليها كشريك كامل الأهلية في العولمة الحديثة. وهذه المشاريع، التي يمكن وصفها بأنها بورجوازية وطنية، كانت حداثوية و متعلمنة وحوامل محتملة للتطور الديمقراطي . لكن هذه المشاريع ، وبالضبط لأنها تعارضت مع مصالح الإمبريالية المهيمنة، حاربتها هذه الأخيرة بلا هوادة وحشدت القوى الظلامية في وجهها بصورة منهجية لهذه الغاية.

إن تاريخ الاخوان المسلمين معروف للجميع . فقد نشأت هذه الحركة في العشرينات من القرن الماضي على أيدي البريطانيين والنظام الملكي بهدف قطع الطريق أمام حزب الوفد الديمقراطي والعلماني. ويعلم الجميع أيضاً أن السادات ووكالة المخابرات المركزية الأميركية نظما عودة جماعية لعناصر الحركة وجمهورها من أماكن لجوئهم في السعودية بعد وفاة جمال عبد الناصر. ونحن جميعا على بينة من تاريخ حركة طالبان التي شكلتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية في باكستان لمحاربة "الشيوعيين" الذين فتحوا مدارس للجميع، ذكوراً وإناثاً. بل إنه معروف جيداً أن الإسرائيليين ساندوا "حماس" في البداية من أجل إضعاف التيارات العلمانية والديمقراطية في المقاومة الفلسطينية .

في الحقيقة كان الإسلام السياسي سيواجه صعوبة بالغة في الإنتشار خارج حدود العربية السعودية وباكستان لولا الدعم المتواصل والقوي والحازم من قبل الولايات المتحدة الأميركية. فمجتمع السعودية لم يكن بدأ بعد الخروج من التقاليد حين اكتشف النفط في أراضيها. والتحالف الذي تم إبرامه على الفور بين الإمبريالية والطبقة التقليدية الحاكمة أعطى الإسلام السياسي الوهابي فرصة جديدة للحياة . ومن ناحيتهم، نجح البريطانيون في كسر الوحدة الهندية من خلال إقناع القادة المسلمين بإقامة دولتهم الخاصة [ باكستان] التي سقطت في شـَرَك الإسلام السياسي منذ ولادتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النظرية التي تم من خلالها شرعنة هذه "التحفة الفقهية " المنسوبة لـلمودودي ، إنما وضعت بكاملها ، وبشكل مسبق ، من قبل مجموعة المستشرقين الإنكليز خدمة ً لصاحب الجلالة (4) .

هكذا ، بالتالي ، يصبح من السهل إدراك مبادرة الولايات المتحدة إلى كسر جبهة الدول الآسيوية والأفريقية المتحدة التي تأسست في باندونغ العام 1955، من خلال انشاء منظمة "المؤتمر الاسلامي" في العام 1957 ، المدعومة من قبل السعودية وباكستان . وبهذه الطريقة تغلغل الإسلام السياسي في المنطقة .

إن أقلّ الاستنتاجات التي ينبغي استخلاصها من الملاحظات التي تم وضعها هنا هو أن الإسلام السياسي ليس النتيجة التلقائية الناجمة عن القناعات الدينية الحقيقية للشعوب المعنية ، أو عن رغبة هذه الشعوب في تأكيد قناعاتها من خلاله . فالإسلام السياسي جرى تخليقه من خلال العمل المنهجي للإمبريالية ، المدعومة ـ بالطبع ـ من قبل القوى الرجعية الظلامية والطبقات الكومبرادورية التابعة. ولا ينفي ذلك ، بطبيعة الحال ، أن هذا الوضع هو أيضا مسؤولية قوى اليسار التي لم تر ولم تعرف كيف تتعامل مع ه