معوقات الاصلاح التربوي في العراق

2015-12-07

قبل الاسترسال في بحث معوقات العملية التربوية في العراق أود أن أشير الى حادثتين مررت بهما من ضمن حوادث كثيرة نَمر بها في العراق يومياً، الحادثة الأولى، إن ولدي جائني في يوم من الايام، وقال لي: إن أحد زملاءه في الفصل قد سأله هل أنت سني أم شيعي؟ فكان يريد الأجابة مني، فَصُدمت لهذا السؤال ولم أعرف كيف إجيبه، فكتبت مقالة نشرتها لاحقاً أسميتها ماذا اقول لك ياولدي محمد !!! ابني محمد يرافق في ذات الوقت طفل جميل أسمه يوسف، كان يأتي معه إلى بيتنا، إلا أن حالته النفسية كانت متعبه، فتقربت منه ذات يوم وسألته عن دراسته وعن طموحاته فكان جوابه أن طموحه حينما يكبر أن ياخذ بثار ابيه الذي قتلته احدى المليشيات الشيعية، يوسف هذا يماثله عشرات من الاطفال الذين يحلمون بذات الحلم، ويماثله عشرات آخرون من الطلاب الشيعة الصغار الذين قتلوا اباؤهم علي يد القاعدة وفيما بعد داعش بتفجيراتها الارهابية في الاسواق الشعبية والأماكن العامة.
 
الحادثة الثانية، أنني حضرت صلاة التراويح في أحد جوامع بغداد، وحصل أنني استمعت قبل الصلاة الى موعظة دينية كانت حول الاسلام والأخر، وعند العراقيين فأن مفهوم الأخر يقصد به غير المسلم (مسيحي، صابئي، ايزيدي، شبكي)، فكانت لغته التعبيرية غير مسالمة، ولاتتوافق مع النظرة الحقيقية للاسلام حول التسامح مع الأخر، وتبني فكرة التعايش معه، كانت لغة الهجوم المضاد التي تبناها المصلون المستمعون شبه عنيفة اربكت الامام، فقام له شخص مصلي وذكره بالمودة التي بيننا وبين المسيحيين وبعلاقات العيش المشترك بين العراقيين منذ مئات السنين، قال له ان جاره مسيحي منذ خمس وعشرون عاما ونتبادل التهاني والسلام والزيارات طوال هذه المدة، ومن المؤكد أنه سيزورني في عيد الفطر ليعايدني فماذا اقول له حين يسلم علي؟ رد الامام عن جهل واضح فقال له، قل له وعليكم !!
الدلالة الواضحة في هذين الحادثتين، تتمحور بان اهم مؤسستين للبناء الفكري وصناعة الانسان، وهما المدرسة والجامع قد تلوثتا بلوثة الطائفية والعنصرية والقبلية والحزبية، من هنا ندرك حجم الضرر والنكوص الذي اصاب المجتمع العراقي، والذي عرف عنه تاريخياً خلوه والى حد كبير من الطائفية والعنصرية المجتمعية، فضلاً عن خلوه من مظاهر التطرف والارهاب بسبب الدور الذي كانت تقوم به المدرسة والتعليم في بث افكار التسامح والاعتدال والتعايش بين العراقيين في العقود الخمسين الماضية.
 
وهنا نحب أن نذكر بالدور الذي يمكن أن تقوم به المدرسة والمعلم والمناهج التعليمية الأخرى في بناء وتنشئة المواطن، وتعزيز روح المواطنة من خلال الأشارة الى تجربة سنغافورة والدور المؤثر الذي لعبه مؤسس سنغافورة الحديثة لي كوان يو، والذي بدء مشروعه النهضوي بالتركيز على المعلم ودوره في بناء الروح الوطنية والثقافة الجامعة وحب العمل والاخلاص به والالتزام بقيم الجمال كقيم دافعة ومحفزة للمجتمع نحو العطاء والبذل. ومازال الطلبة في المدارس السنغافورية يقسمون كل يوم ان يحافظوا على سنغافورة التي بناها لي كوان يو، والتي باتت الدولة الاولى في العالم من حيث مخرجات التنمية والحداثة.
 
إن الحديث عن معوقات العمل التربوي في العراق هي من الصعوبة التي لايمكن حصرها في هذه الورقة، فهي نتاج تراكم سلبيات ما يزيد على اثنتي عشرة سنة من بعد تغيير النظام السابق 2003، حيث لم تستطع القوى السياسية والادارية البديلة أن تستوعب المتغيرات التي اصابت المجتمع العراقي، وأن تنهض به بعد الكبوة العلمية والتراجع الذي أصاب مختلف القطاعات والوزارات الخدمية والمهنية والتعليمية، ولهذا فإن الحديث عن معوقات الأصلاح لا يمكن أن يتم بالحديث فقط عن المناهج التي تُعطى للطلاب أو الحديث عن المدرسة التي تفتقد في العراق إلى الكثير من مقومات الحداثة ومواكبة التطورات العلمية في مجال التربية، فالحديث ينبغي ان يكون شمولياً عن المدرسة والمدرس والطالب والمنهج وعن عائلة الطالب وعن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيش فيها الطالب والمدرس وغيرها من الظروف التي تحيط بمجمل العملية التربوية. إن الحديث عن إصلاح قطاع التربية والتعليم في العراق قد بدء مع تغيير النظام السابق في عام 2003، حيث جرى التركيز على ضرورة تخليص المناهج والكتب المدرسية من افكار حزب البعث التي سعى النظام السابق إلى بثها في عقول الطلاب والمدرسين، ولكن من الواضح إن عملية إصلاح المناهج وتغيير الكتب قد خضعت لسنوات إلى اجتهادات حزبية وشخصية أكثر من خضوعها لعملية منهجية سليمة، حيث بقيت فلسفة الوزير ورؤية كتلته السياسية هي المتحكمة في مشهد الأصلاح، إذ أن رغبة الأحزاب السياسية في الهيمنة على العملية التربوية وعدم قناعتها بضرورة استقلالية قطاع التربية والتعليم عن المشهد السياسي العام في البلاد قد دفع الى حصول ارباكات واضحة في عملية الاصلاح وبقي قطاع التربية من اكثر مفاصل الدولة العراقية تقدماً نحو الأنهيار. إن تفصيلاً أكثر لتلك المعوقات يُوجّب علينا تقسيمها وفق الرؤية الآتية :
 
اولاً : الفساد المالي والأداري :

يعاني العراق من الفساد المالي وسرقة المال العام، إذ إنفقت الحكومة منذ عام 2003 مليارات الدولارات على مشاريع بناء مدارس بمواصفات حديثة أو إعادة تأهيل الآف المدارس القديمة وفي مختلف محافظات العراق، إلا أن الكثير من تلك المشاريع كانت وهمية وأهدرت اموالها بطريقة غير منضبطة، وكانت تشوب عمليات صرفها حالة من التلاعب والسرقة مما أنعكس في بقاء الكثير من المناطق بلا مدارس حديثة، كما ظلت الكثير من المدارس القديمة بحاجة الى التأهيل والترميم لتواكب تزايد أعداد الطلبة، لاسيما مع تصاعد عمليات النزوح من المناطق والمحافظات التي تشهد عمليات عسكرية مستمرة، حتى وصل الدوام الرسمي في بعض المدارس ولاسيما في بعض مناطق بغداد الشعبية إلى ثلاث وجبات ولمدة ساعتين لكل وجبة مع اكتضاض واضح لاعداد الطلاب في بعض الصفوف يصل إلى خمسين طالباً في الصف الواحد.
 
واستمرت أزمة المدارس في بعض المحافظات الفقيرة كذي قار وصلاح الدين، حيث تعاني تلك المحافظتين من كثرة المدارس الطينية وبُعدها عن الطلاب، وتم التعامل مع الاموال المخصصة لإعادة بناء تلك المدارس الطينية بطريقة غير قانونية أدت إلى هدر الكثير منها.
 
ولا يخفى مالقلة المدارس وبعدها وقدم الكثير منها وافتقارها الى المقومات الاساسية للتدريس من نقص في الكوادر التدريسية وهجرتها بسبب العنف والقتل والاغتيال وقلة المختبرات، وقدّمها وضعف الخدمات الصحية من مياه نظيفة للشرب ودورات مياه، من أثر في عزوف الكثير من الطلاب عن الألتحاق بالمدارس، ولهذا فإن المشكلة التي تواجهها العملية التربوية في العراق تتمثل اليوم في ارتفاع نسبة المتسربين من المدارس الأبتدائية والثانوية، وقد لاحظت المفوضية العليا لحقوق الانسان استمرار وتنامي ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس، وهو مؤشر خطير على إهمال الحق في التعليم وكفالته من قبل الدولة، وقد أظهرت أحصائيات "وزارة التخطيط-الجهاز المركزي للإحصاء مجموعة الإحصائيات السنوية"، أن عدد المتسربين من المدارس الأبتدائية خلال العام الدراسي 2010-2011 في بغداد وحدها بلغ (34337) وهو عدد كبير ومؤشر خطير على أهمال الحق في التعليم للعراقيين. وأشارت المفوضية أن أهم أسباب هذه الظاهرة يعود إلى أرتفاع معدلات الفقر وضعف الإمكانية المادية لبعض لأسر العراقية إذ يلعب العامل الإقتصادي دوراً رئيسياً في سعة حجم ظاهرة التسرب.
 
كما أن إتساع الهجمات الإرهابية الإجرامية، وتكرارها بشكل يومي في بعض الإحيان قد يدفع الأُسر الى الخوف على أبنائها، ومنعهم من الإلتحاق بالمدارس حفاظاً على حياتهم. فضلاً عن أن ضعف النظام التعليمي في المدارس الإبتدائية، وإعتمادها على الطرق التقليدية (التلقين والحفظ) في التعليم فضلاً عن التهجير القسري نتيجة للأوضاع الأمنية السائدة في العراق، والرسوب المتكرر، وعدم متابعة التلاميذ من قبل إدارة المدرسة، أو ذوي التلاميذ مما يضعف ثقة التلميذ بنفسه وبقدراته، ويفقده المتعة من وجوده في المدرسة، ويثبط حافزه على متابعة الدراسة، كما أن ضعف مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة، وضعف الإنفاق على التعليم الإبتدائي وعدم القدرة على توفير مستلزماته من ملاكات تعليمية، وأبنية صالحة، وكتب منهجية، وقرطاسية، ولوازم مدرسية (تقرير المفوضية لسنة 2014 ص 91).
 
لقد إنعكس هذا الواقع المتردي لقطاع التربية والتعليم إلى زيادة نسبة الهروب والتسرب من المدارس. وبالتالي ارتفاع نسبة الامية في العراق الى مستويات خطيرة، حيث بلغت حسب تقارير منظمة اليونسكو لعام 2015، 27%، وهو رقم مخيف في بلد غني كالعراق وصلت ميزانياته السنوية الى ارقام كبيرة ومؤثرة، ولايخفى مالهذه النسبة من اثر كبير في نمو التطرف والارهاب في العراق، فالجهل وقلة التعليم والاحباط لدى الشباب تشكل مادة دسمة لانخراط الكثير منهم للاتحاق بالحركات المتطرفة التي تخل بالامن المجتمعي وبالسلم الاهلي للمجتمع العراقي.
 
ولعل من أهم أوجه الفساد المستشري في قطاع التربية والتعليم في العراق، هو التعيين بالواسطة لخريجي الجامعات من مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية، فقد باتت الدرجات الوظيفية حكراً للوزير والمقربين من حوله يتصرف بها لغايات حزبية وانتخابية وعشائرية، وعليه فقد حرم الآف الطلبة المتفوقين من التعيين لعدم امتلاكهم للواسطة التي تؤهلهم للحصول على درجة وظيفية وتم تعيين الآف الطلبة الخريجين الفاشلين كمدرسين ومعلمين، الأمر الذي أثر في تراجع العملية التربوية وتردي معايير الجودة، وتعكس أبيات الشعر التالية ما وصل اليه قطاع التربية في العراق من انهيار بسبب الوساطة في التعيين، والتي دفعت الآف من العناصر الكفوءة إلى الهجرة خارج العراق للبحث عن فرص عمل. فقد قيل أن خريجاً جامعياً متفوقاً لم يحظ بدرجة وظيفية في قطاع التربية والتعليم، بعث برسالة الى مدير القطاع يشكو اليه حاله فقال :
خريج جامعة ببابك واقف يرجوا الوظيفة فهل لديك وظائف
تقديره الممتاز يشكو للورى فقر الجيوب ومن قرارك خائف

فرد عليه المدير :

ليس المؤهل يافتى بشهادة غير الوساطة كل شيء تالف
تقديرك الممتاز لايكفي هنا ان الحياة معارف ومناسف
 
ان هذه الأبيات من الشعر تعكس حالة الأحباط والشعور بالغبن لدى الكثيرين من خريجي الجامعات المتفوقين وهو ما يولد حالة من التطرف والأرهاب الفكري وربما العملي لدى الكثيرين منهم.
 
ولعل من المشكلات التي يواجهها قطاع التربية والتعليم هي أنتشار المدارس والجامعات الأهلية، وإعطاء الموافقات لفتح هذه المدارس والجامعات دون أعتبار للمعايير الخاصة بفتح المدارس الأبتدائية والثانوية الأهلية ولا لحاجة العراق الى هذا الكم الهائل من المدارس الأهلية، فقد تشاهد في الكثير من أحياء العاصمة بغداد مداس أهلية يتم فتحها في بيوت عادية وبمساحات بسيطة وتفتقر الى الكثير من المعايير مثل الصفوف المنتظمة والساحات المخصصة للعب الطلاب وممارسة الرياضة وافتقارها إلى القاعات الخاصة بالرسم والفن، كما إن من المشكلات التي يواجهها قطاع التربية، هي وغلبة القيم المادية للكثير من المدرسين في المدارس الحكومية وقلة عطاءهم واندفاعهم في اعطاء المواد التدريسية حقها من الشرح والتفصيل وبالتالي تفضيلهم التدريس في المدارس الاهلية، مع ما يرافق هذه الظاهرة من أنتشار للتدريس الخصوصي وبيع الأسئلة والتساهل في النتائج النهائية.
 
ثانياً : صورة الأخر في المناهج العراقية :

لازالت صورة الأخر غير المسلم في العقلية العراقية المسلمة صورة مشوهة ومرتبكة، ولا ترقى إلى حجم الطموح الذي ينبغي أن تكون عليه صورة الأقليات الدينية والثقافية المتعايشة في المجتمع العراقي منذ الآف السنين، فلا زال الطالب العراقي بجميع مراحله مدركاً في عقله الباطن بأن الشخص اليزيدي هو كافر، لأنه يعبد الشيطان. ولاتسمح العقلية العراقية المسلمة لذاتها ان تفهم صورة اليزيدي كما يراها هو، ولطالما بقيت صورة التفكير هذه بأن اليزيدي سيبقى من عبدة الشيطان، وقذراً لا يستحم وهو يكره النظافة والعلم. وَحريً بوزارة التربية أن تدلوا بدلوها في إعادة التعريف بثقافة هذه الأقلية الدينية عبر أشارات واضحة في مناهجها التعليمية إلى تاريخ وجودها في العراق وطبيعة ثقافتها ودينها؛ لكي يدرك الطالب معاني القبول والتعايش والتسامح مع الآخر باعتباره مواطناً يعيش معه على قدم المساواة.
 
أما بالنسبة للمسيحي، فلم تشفع الصورة الحسنة المرسومة عنه من كونه مواطناً مسالماً وملتزماً بالقانون وبالعلم ومنضبط بفكرة الدولة ومحب للعمل، في أزالة الرؤية الضبابية التي تتملك العراقي المسلم حول ثقافة المسيحي وطبيعة معتقداته، فلا زال العراقي المسلم يأخذ الكثير من الأحكام من القرآن والسنة النبوية، والتي رغم أنها تملك صورة أيجابية في كثير من جوانبها خصوصاً حيال السيد المسيح وأمه العذراء مريم، الأ أنها في جوانب أخرى تظهر المسيحي بصورة الكافر والمعاند لدين الحق، فظلت الصورة لا تعكس ما يُظهره المسيحي من صورته الثقافية والدينية بل ما يراه المسلم المتغلب بأسم الدين.
 
وبقي السؤال الذي يتهرب أغلب العراقيين عن اجابته، ما هي طبيعة الديانة الشبكية والصابئية والبهائية؟ فالجواب يكون أما بجهل فاضح أو بمعلومات مظللة أخذها شفاهة من متطرف أو جاهل أو مدلس. إن هذا الغموض في صورة العراقي عن الأخر ساهم في حالة عدم المبالاة أو الأكتراث عند العراقيين المسلمين وقواهم السياسية لما يحصل للجماعات الدينية المغايرة من قتل جماعي وتهجير وخطف واغتصاب على يد العصابات الارهابية وفي مقدمتها داعش، فلم تتجاوز المواقف بيانات الأدانة والأستنكار للتفجيرات التي تحصل لكنيسة أو دير أو تنديد بعمليات القتل والخطف والتهجير لرجال دين وموظفين ورجال أعمال.
 
ولعل الباحث العراقي المسيحي د.فائز عزيز أسعد هو أفضل من لخص موقف القوى العراقية الشعبية والسياسية من واقع المسيحيين بالعراق، حينما استنبط من قول الشاعر الكبير الفرزدق حينما سأله الامام الحسين ابن علي وهو متوجه الى الكوفة في العراق: كيف وجدت أهل العراق؟ فأجاب الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم بيد يزيد. ان هذا المثل ينطبق كما يقول د. أسعد على موقف القوى الشعبية والسياسية داخل العراق، فالكثير منهم متعاطف ومتألم لما جرى للمسيحيين من قتل وتهجير ولكنهم لا يحركون ساكناً على أرض الواقع كما أنهم حينما يصبحون على المحك يبدأون بالحديث عن حقوقهم القومية والمذهبية والعشائرية بدلاً من حقوق ومصالح العراقيين جمعياً.
 
أن الصورة المبتورة المرسومة عن الأخر في العقلية العراقية المسلمة يعززها واقع الكتب المدرسية الأبتدائية والثانوية، والتي بدت شبه خالية من أي لمحات حقيقية للمكونات الدينية والعرقية في المجتمع العراقي، ورغم أن بعض الكتب في المرحلة المتوسطة أحتوت على مقولات بسيطة للسيد المسيح، إلا أن ما يوجد منها بشكل عام حول تاريخ المكونات العراقية غير المسلمة ومعتقداتها وثقافتها وشخوصها ومناسباتها وأعيادها وعلاقاتها الاجتماعية مع بعضها البعض أو بالاغلبية المسلمة لايكاد يُذكر تماماً، مما يتطلب تكثيف الحديث عن تلك المكونات ولاسيما ما تعرضت له من انتهاكات صارخة لحقوقها الثقافية وارثها الديني والفني، وخصوصاً المسيحيون والايزيديون على يد عصابات داعش الأرهابية وبعض الخارجين عن القانون، والذين قاموا بسلب أملاك المسيحيين في بغداد والموصل وقتل وتهجير الكثير من أبناءهم، فضلاً عما حصل من مذابح وتهجير لعشرات الآف العوائل الايزيدية واغتصاب النساء الايزيديات على يد عصابات داعش الارهابية وهو حدث لا انساني وبربري يجب ان يبقى في ذاكرة الأجيال، فضلاً عما تعرضت له مناطق المحافظات السنية من عمليات تهجير وقتل ونهب لممتلكاتها على يد الجماعات الخارجة عن القانون، والتي استغلت هروب عصابات داعش من تلك المناطق لتقوم بعمليات بربرية ووحشية من قتل على الهوية وتفجير للمساجد وتجريف للمزارع وحرق للبيوت ونهب للممتلكات والمدخرات، أن تثبيت بعض تلك الحقائق بشكل مختصر في مواد التاريخ والوطنية كفيل بإعطاء هذه المكونات استحقاقها، كما أنها قد تكون جزءاً من مشروع للمصالحة الوطنية، والذي تعمل له الحكومة العراقية منذ مدة طويلة كجزء من ترتيق الذاكرة الجمعية للعراقيين.
 
ثالثاً – تحدي الفقر والبطالة :

يعتبر العراق من أكثر الدول فساداً في العالم وفق معايير منظمة الشفافية الدولية، وأنعكس هدر المال العام بسبب الفساد في ارتفاع نسبة الفقر في المجتمع العراقي والتي وصلت وفق احصائيات وزارة التخطيط لسنة 2014 الى 19%، وقد ساهمت ظروف النزوح والتهجير القسري بعد سيطرة عصابات داعش الارهابية في يونيو/حزيران 2014، في ارتفاع نسبة الفقر في العراق لتصل الى مايقارب 25% من مجموع الشعب العراقي، وهي أرقام مخيفة في بلد يُعد من أغنى بلدان منطقة الشرق الأوسط في ثرواته الطبيعية والبشرية، وقد شملت عمليات النزوح والتهجير بسبب اشتداد العمليات العسكرية ست محافظات أساسية من العراق هي (بغداد، الأنبار، صلاح الدين، ديالى، كركوك، الموصل)، وإزاء هذه النسبة المخيفة للفقر وما رافقها من تخريب لبنية العملية التربوية من هدم للمدارس ونهب ممتلكاتها وتهجير وقتل المعلمين والمدرسين، اضطرت الكثير من العوائل الى تشغيل أبناءها في أعمال ثانوية لتأمين الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ولهذا أضطر عشرات الآف الطلاب إلى ترك مقاعد الدراسة، يقابلهم أنضمام الآف الطلبة الأخرين للحركات المتطرفة كالداعش والمليشيات الخارجة عن القانون.
 
لقد بلغت ازمة النزوح في العراق حد الكارثة الأنسانية حينما تجاوز العدد وحسب إحصائيات الأمم المتحدة (3،200) ثلاثة ملايين ومئتي إلف نازح وهو ما يتجاوز قدرة الحكومة العراقية على التعامل معها واحتواءها بسبب ضعف خبراتها وقلة تخصيصاتها المالية، وخضوع أزمة النزوح لحسابات سياسية، وإزاء ضعف تعامل الحكومة العراقية مع هذه الأزمة المتفاقمة تتصاعد معاناة النازحين من جميع المناحي، وتتجلى أزمة التربية والتعليم من بين أهم المشاكل التي يواجهها النازحون، فعدد المدارس ونوعية التعليم وقلة المناهج في أماكن النزوح دفع إلى حرمان عشرات الآف الطلاب من الحصول على فرص تعليمية، كما أن عدم قدرة الحكومة على تأمين عودة هؤلاء السكان الى مناطقهم التي تحررت منذ ما يزيد عن سنة من عصابات داعش. يزيد من عوامل الاحباط والتطرف حيال الجهات الحكومية والحزبية التي حرمتهم من العودة إلى مناطقهم ومدارسهم، وهو ما يرفع من وتيرة التطرف والأرهاب عند الآف الشباب المحرومين، ويكون عامل تغذية للحركات الأرهابية لمواصلة مشروعها الظلامي في تدمير السلم المجتمعي للعراقيين.
 
ومن المؤشرات الخطيرة في هذا الأتجاه أزدياد الأيتام في المجتمع العراقي، وعدم قدرة أعداد كبيرة من الايتام في الحصول على تعليم كافٍ، وقد لاحظت المفوضية العليا لحقوق الانسان في تقريرها السنوي لعام 2014، إزدياد عدد أطفال الشوارع في العراق لا سيما المتسولين، والمتشردين بسبب أرتفاع ظاهرة الأيتام في العراق، فحسب البيانات التي تم الحصول عليها من الجهاز المركزي للإحصاء , فأن نسبة الأيتام في العراق دون سن الثامنة عشر قد بلغت 9.2% (1,359,743 يتيم)، اذ شكّلت نسبة يتيم الأب نسبة 2.5%، ونسبة يتيم الأم نسبة 2.5%. أما يتيم الأبوين فقد كانت نسبتهم 1.4%، والملاحظ أن ما يقارب 5%، من الأطفال في العراق في سن من 0-17 عاماً هم من الإيتام بعد وفاة أحد الوالدين أو كليهما. في حين بلغت نسبة الأطفال الذين لا يعيشون مع أحد والديهم الحقيقيين 2%. ( المصدر : تقرير المفوضية لسنة 2014 ص91) ولاشك ان لليتم آثار اجتماعية ونفسية كبيرة تنعكس في ترك اليتيم المدرسة بحثاً عن فرصة عمل تقي عائلة اليتيم غائلة التشرد والفقر، فضلاً عن العمل في مهن تتصف في أحيان كثيرة بالشاقة والوضيعة مقابل أجور متدنية، وهذا بلا شك يُولد حالة من الاحباط والقهر لدى الكثير من الاطفال والشباب تنعكس في أنجراف الكثيرين منهم نحو التطرف والنظرة السلبية حيال المجتمع.
 
وأخيراً نود الأشارة إلى أن تغيير المناهج يجري في ظل الواقع العراقي الجديد والذي يتطلع فيه العراقيون الى بناء ثقافة وطنية واحدة تستند إلى نهج المشاركة والحوار وتنمية ثقافة حقوق الانسان عبر المساواة والعدالة بين جميع العراقيين، ولكن مانراه اليوم أن هناك سعياً لالغاء الثقافة الوطنية الواحدة وتفعيل ثقافة المكونات التي تُعلي من ثقافة الاغلبية المهيمنة تحت مبررات تاريخية وتسحق ثقافة الأقليات الدينية والثقافية الأخرى، ولعل هذا هو أخطر ما يواجه النشيء الجديد في العراق.
 
كما أن الدستور العراقي الذي يقر بالفيدرالية في مواد مختلفة منه يتيح الفرصة أمام الأقاليم لتبني سياسات واستراتيجيات مختلفة في أحيان كثيرة عن رؤية الحكومة الأتحادية، والخشية أن تنعكس هذه الرؤية مستقبلاً على تبني سياسات تربوية تعزز في النشيء الجديد مفاهيم إقليمية ومذهبية وعنصرية تبتعد عن الثقافة العراقية الواحدة.
 
،ولعل ما تم تبنيه من استراتيجيات تعليمية وتربوية في إقليم كردستان منذ عقدين من الزمن لتعليم النشيء الكردي قيم الثقافة الكردية بعيداً عن الهوية العراقية الجامعة قد يتكرر في إقاليم عراقية قد تنشأ لاحقاً وهو ما يسهم في تفتيت الهوية العراقية. ونكرر ما قلناه ابتداءاً من أن أبعاد مناهج التربية والتعليم عن هيمنة الأحزاب والقوى السياسية سيكون خطوة مفيدة لأنقاذ ذاكرة الأجيال من لوثة السياسة وتدليس السياسيين ، كما أن تطهير الخطاب الديني من مفاهيم الكراهية وتشذيب مناهج التربية الاسلامية وكتب التاريخ من بعض الاحكام المسبقة وتفعيل مناهج حقوق الانسان والديمقراطية والاهتمام بالفنون المنشطة للذاكرة، كالفن بكل أصنافها والرياضة بكل فروعها من شأنه أن يفك رموز الذاكرة المغلقة نحو فهم أوسع للهوية العراقية المتعددة المنابع.
  • د.دهام محمد العزاوي، المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق
ورقة عمل قُدّمت في ورشة عمل "نحو استراتيجية شاملة لمحاربة التطرف وبناء توافقات وطنية ... (2-4) - إصلاح المناهج والعملية التربوية كأداة لمحاربة التطرف والإرهاب"والتي نظّمها مركز القدس للدراسات السياسية في السابع والثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر 2015.
https://www.alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=2054