مؤتمر: التجربة البرلمانية الأردنية في ثلاثين عاما

2019-04-30

 السادة المشاركون ...السادة الحضور

أسعد الله أوقاتكم بكل ما فيه الخير للوطن والشعب ,,,,

إسمحوا لي أن أثمن عاليا" هذا المؤتمر وأحيي المنظمين والقائمين عليه لما بذلوه من جهود لإنجاح أعماله , كما اسمحوا أن أتوجه بالتحية لكافة السيدات والسادة المتحدثين عبر كافة جلساته ومحاوره النقاشية , ذلك أن موضوع البحث وعنوانه العام إلى جانب كافة العناوين الفرعية ومحاور النقاش هي على درجة عالية جدا" من الأهمية في مسار بناء الوطن ورفعته.

الحوار والمراجعة والنقاش ضرورة وطنية وبالتحديد ما يتعلق بالمؤسسات والسلطات الدستورية الثلاث والتي تشكل الأعمدة الأساس في البناء السياسي الذي نص عليه الدستور عقدا" إجتماعيا" نحترم ونجل بل ونحمي , ليبقى على الدوام الأردن بلد الاستقرار والنماء , نموذجا" للدولة الحديثة القائمة على الديمقراطية والحرية والحياة الأفضل.

كما وأود التأكيد على أن المدخل والمقاربة التي أراها دوما"ضرورية بل وحاسمة في تناول المسائل على هذا المستوى من الحساسية والأهمية , هو النقد البناء المستند إلى الحقائق البعيد عن التجاذب , والمقاربة الموضوعية الهادفة لتصحيح المسار إن شابه خلل مع عدم إنكار الحاجة تعظيم الإنجازات منعا" من الإنزلاق في حالة جلد الذات أو التوهم بالكمال في الآداء. إن الوثائق والنتائج التي سيخرج عنها مؤتمرنا هذا هي وبحق رصيد إضافي من الشهادات والرؤى والمواقف التي تضاف إلى ما سبقها , لتصبح من حق الأجيال من بعد في تناولها والإستفادة منها أو وضعها جانبا", وهي شاهد على كيفية تحملنا للأمانه وبالتالي مآلاتها, فالتاريخ لا يرحم وكذا هي مسؤوليتنا اليوم في تناوله. في البدء أود أن أعلق على محاور هذه الجلسة من حيث عناوينها والترتيب الذي جاءت به من خلال ما يلي :

أولا"- كنت أفضل أن يكون المحور الثاني "مكانة مجلس النواب...."الخ هو المحور الأول الذي يفتتح به النقاش .

ثانيا"- أرى أن العنوان يحتاج أن يضاف له مسألتين :

1 –تاريخ البرلمان في الأردن ومن ضمنه مجلس النواب من حيث كون هذا التاريخ إرثا" قبل إنقطاع الحياة البرلمانية وبعدها وبالتالي فذلك التاريخ لا يمكن فصله عن الحالة الإجمالية لتطوير المجالس البرلمانية وتقاليد عملها .
2- دور مجلس النواب في النظام الدستوري والحياة السياسية وذلك مرده إلى عاملين أساسيين :

أ- مجلس النواب هو أحد جناحي البرلمان وبالتالي فالتجربة البرلمانية هي بيئة الدراسة الطبيعية وليس فقط مجلس النواب.
ب - التأكيد على مجمل الآثار التي يلعب بها مجلس النواب دورا" والتي ومن ضمنها تلك الآثار الاجتماعية والتشريعية والاقتصادية إلى جانب الأدوار السياسية والرقابية.

ثالثا"- وبالنسبة للمحور الأول كنت أفضل أن يكون العنوان "أنماط التشريعات الإنتخابية وآثارها" ذلك أن القراءة الموضوعية تتطلب وضع كامل التجربة موضع البحث , فهل القانون الحالي بعيد عن الدراسة والتحليل ولماذا, هل القانون الذي أنتج مجلس العام 89 مثالي؟ هل تتالي التعديلات تمثل في مجملها تطور ؟

لا شك بأن البيئة التشريعية وقوانين الانتخاب والأنظمة المرتبطة بها والجهات المشرفة والجهات الرقابية كل ذلك من المتوجب أن يكون موضع البحث والدراسة والتحليل .

وحول محور مكانة مجلس النواب في النظام السياسي الأردني، أشير إلى ما يلي من محددات رافقت التجربة البرلمانية ومن ضمنها التجربة النيابية:

1- حداثة نشاة الدولة الأردنية تحتم علينا التعامل مع التاريخ البرلماني الأردني ومن ضمنه حكما" مجلس النواب ضمن شروط ومحددات بنية المجتمع الأردني وقواه الحية وموقعه الجغرافي.
إذ ليس من الإنصاف أن يتم تقييم تلك التجربة السياسية والممارسة البرلمانية الرفيعة دون إحترام حال التطور الاقتصادي والمجتمعي وبالتالي درجة الوعي السياسي وإحترافية العمل البرلماني ومن ضمنه النيابي.
ومع ذلك يسجل باحرف من مجد الأجداد والآباء بحنكتهم السياسية الفطرية وذكائهم المجتمعي وحكمتهم التي حددت اولوياتهم السياسية عبورهم مرحلة التأسيس بنجاح مميز وحفاظهم على سلامة بوصلتهم وثوابتهم القومية والوطنية.

2- توازي مسار نشأة الدولة الأردنية مع مخططات وتنفيذ زرع الكيان الصهيوني البغيض في قلب الأمة فلسطين شكل وبلا شك عاملا" محددا" أساسيا" في تطور الحياة السياسية في الأردن بمجملها والخيارات الانتخابية من جهة أخرى ذلك كله إلى جانب أن تلك الفترة هي أيضا" فترة التحرر العربي بكل ما حملته من تفاصيل ومعطيات تفيض بعشرات المرات عن الوقت المتاح لنا في هذا المؤتمر.

3- المشروع الوطني لبناء الدولة في ظل ضعف الموارد ومحدوديتها وبالتالي الإعتماد على الإنسان كركيزة للمستقبل شكل إلى حد كبير مفهوم الدولة في التعامل مع البناء السياسي ومؤسساته كأولوية ثانوية . وعليه تم بالمقابل تكريس بنى مجتمعية قائمة مثل العشيرة والعائلة كأساس بديل عن الأحزاب والقوى السياسية.

إن مجمل العوامل السابقة مع ملاحظة عمومية ما طرحت شكل البيئة الحاضنة لتشكل الحياة السياسية . وهنا يجب ملاحظة أن المجتمع الأردني تمسك بإصرار بالحق في الممارسة الديمقراطية من خلال مجلس نيابي منتخب بحيث لم تنقطع المطالبة بذلك طيلة سنوات الإنقطاع البرلماني عن الحياة العامة .

ذلك مؤشر حاسم على مكانة المجلس النيابي في العقل الجمعي الأردني وأهميته . بل هو نقطة إنطلاق لفهم أن التمسك بالحقوق الدستورية والتمثيل المنتخب هو سمة من سمات تشكل الوعي الأردني الحديث. فالأردنيون اليوم يدركون وبالرغم من كل ما يمكن أن يصيب الممارسة النيابية من أخطاء وعثرات ,هم متمسكون بالدستور وما ينص عليه من حقوق سياسية يقع في المقدمة منها المجلس النيابي المنتخب.

وهنا لا بد لنا من الإعتراف بأن ذلك لم يأتي من فراغ ولا مجرد تمسك نظري بالحاجة للتمثيل النيابي. إن ما قدمه مجلس النواب وفي مراحل حاسمة من التاريخ السياسي الأردني والمواقف القومية الثابتة المنحازة نحو الأمة ومصالحها هو بالتأكيد يسهم في التمسك بهذه المؤسسة البرلمانية والدستورية المحورية في النظام السياسي والتشريعي والرقابي الأردني بالرغم من كل ما يمكن أن يثار حول واقع الممارسة النيابية وما يشوبها من أخطاء و/أو عثرات لا شك هي بحاجة للدراسة والتقويم.

كما أن الأدوار التشريعية والتي تمثل صلب عمل المجلس أصبحت اليوم وبعد تجربة ليست بالقصيرة تمثل حاجة وطنية وشعبية . يجب أن لا ننسى وفي معرض تناولنا للتجربة النيابية أن جوهر الفصل بين السلطات يتوجب بقاء الصلاحية الكاملة والحصرية في التشريع للبرلمان . ذلك يعني أن الحالات التي تم فيها إنتاج القوانين المؤقته شكلت إرباكا" تشريعيا" ما زال المجلس يعاني من آثاره.

وعلينا أن لا ننسى أو نتناسى ما للرقابة البرلمانية والنيابية تحديدا" من ضرورات تعزز الفصل بين السلطات وتضبط إيقاع العلاقة فيما بينها. إن حالات تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات تركت آثارا" عميقة غير محمودة يتوجب التنبه إلى عدم تكرارها.

وفي محور التشريعات الانتخابية 1989-2108

جاء المجلس النيابي المنتخب في العام 1989 كنتيجة للعديد من المعطيات السياسية والمجتمعية والظروف الإقتصادية بما لها من صلة بالمحيط العربي وتطوراته وهو الأمر الذي لا يتسع المقام لتفصيله. لكننا لا نستطيع تجاوز الحالة العامة للبلاد من احتقان سياسي ومجتمعي لجهة غياب الحريات العامة إلى جانب أزمة إقتصادية جنبا" إلى جنب مع تداعيات فك الإرتباط وغيرها من المعطيات الإقليمية والدولية وهو ما شكل بمجمله مقدمات الهبة الشعبية في نيسان قادت إلى إستقالة الحكومة وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق الحريات العامة وإجراء إنتخابات نيابية هي أولى بعد غياب سنوات طويلة. وبالتالي جاء المجلس المذكور معبرا" عن عمق المطالبة العامة بالمؤسسة البرلمانية تعبيرا" عن مراهنة الشعب على الأدوار المنوطة بها كعامل إستقرار سياسي ومجتمعي.

إن الإشادة بهذا المجلس بما يشمل أداءه السياسي والتشريعي وديناميكيته دليل حي على أن المجتمع الأردني قادر على الممارسة النيابية والسياسية الرفيعة والحكيمة . مما يدحض مقولات جهوزية المجتمع للمارسة النيابية.

شهد المجلس المذكور تحالفات وتقاطعات سياسية تصلح أن تشكل درسا"في التعاطي المسؤول مع القضايا المحلية والقومية . وتمكن المجلس من خلال هذا الآداء من خلق توازنات داخلية حفظت البناء السياسي وساهمت في تطوير وتحسين شروط التعامل مع التيارات السياسية المتنافسة.

إنتخب الأردنيون طيفا" واسعا" من القوى والشخصيات السياسية في رسالة واضحة حول تنوع هذا المجتمع وانحيازه في ظل هذا التنوع للحوار وسيلة للتعاطي بين أبناء الوطن الواحد .

نجح المجلس في أن يكون تمثيليا" وأن يسعى الأردنيون لتلقف أخباره والحوار حول مواقفه ونقدها والتفاعل معها كل ذلك شكل حالة نيابية لا شك بأن التاريخ سينصفها ولكن قبل ذلك فإننا بحاجة لوعيها ودراستها في رسالة للأجيال بأن التمثيل والأداء النيابي مصدر قوة مجتمعية وثبات واستقرار للدولة وليس العكس.

وفي معرض الحديث عن التطور في البيئة التشريعية الإنتخابيةكمحور لهذه الجلسة وجدتني لا أستطيع الفصل بسهولة بينه وبين المحور الثالث وما تم تسميته ب" مأزق مجالس النواب القائمة على الفردية.......".

أولا"- كيف لنا أن لا نربط بين قوانين الإنتخاب وتغيراتها (لا أقول هنا تطورها) وبين مأزق ما يسمى المجالس القائمة على الفردية أي الصورة البديلة للبرلمانات الناتجة عن كتل وأحزاب وكيانات سياسية, ذلك إن كان بالفعل الهدف الوصول إلى قراءة موضوعية ونقد بناء.

ثانيا"- علينا أيضا" الإجابة بشجاعة أن الصوت القبلي والجهوي والمصلحي جزء لا يغيب عن أولويات الحالات السياسية المتفرقة هنا أو هناك.

من الضروري الإقرار بأن المجالس المنتخبة تعكس بنية الجمهور الناخب المشارك في العملية الانتخابية , سواءا" البنية الإجتماعية أو الإقتصادية وغيرها وتلك عوامل مؤثرة في توجيه الصوت الإنتخابي. وبالتالي وبالعطف على ما ذكرت من محددات إجمالية لتاريخ الحياة والممارسة السياسية والبرلمانية الأردنية نجد أن حالات التمثيل النيابي هي بمجملها فردية وليست برامجية بخلاف بعض الإستثناءات في مجلس 1956 و1989 بشكل أساسي . وبالتالي لا يمكن لنا القول بأن المجلس النيابي كان له سمة العمل الكتلوي الجماعي.

لقد كان لإقرار قانون الصوت الواحد أسبابه التي تحتاج إلى وقفة عميقة وستثير جدلا" طويلا" . لكنها بالتأكيد عبرت عن تخوف لدى الدولة العميقة من مخرجات إنتخابات العام 1989 وبالتالي ليس من الإنصاف القول بأن هذا القانون جاء مجرد تجربة غير محسوبة النتائج . وللأسف ترك الصوت الواحد آثارا" مجتمعيه عميقة يمكن تلخيصها بالآتي:

1- تعزيز التفتت المجتمعي وتكريس التوجه نحو الإنتماء العشائري والقبلي والجهوي وغيرها من الهويات الضيقة على حساب نمو وتطور قوى وأحزاب سياسية فاعلة ومؤثرة.
2- إحداث نكسة عميقة لدى المواطن و تمسكه بالعملية الديموقراطية إذ بعد مجلس نيابي وتجربة سياسية مهمة في العام 1989 تأتي المجالس الناتجة عن تصويت محدود الأفق لتقدم صورة أداء وممارسة مغايرة بل وأخذ الآداء منحى متراجع مع كل مجلس منتخب .
3- إحداث شرخ وتشويه لصورة القيادات السياسية والتي اضطرت تحت وقع التكتيك الإنتخابي إلى مداعبة المشاعر الجهوية الضيقة مما أضعف الثقة فيها بمواقفها وبالتالي أعطت المبرر للإلتفاف حول القيادات ومراكز القوى المجتمعية التقليدية لتكون صورة نائب الخدمات هي المسيطرة على المشهد وليس النائب السياسي( نائب الوطن).
4- نشوء أجيال كاملة لم ترى أمامها إلا التجربة السياسية التي تحيط بها إتهامات المال السياسي والتوجهات الجهوية والمصلحية الضيقة مما أفسد وعيها السياسي وأضر بثقتها بجدوى الحياة النيابية.لقد تنامت تلك القناعة أيضا" في ظل واقع إقليمي حاد ودقيق إن لم نقل مهزوم وهو ما عمق حالة الغربة بين الشباب والعمل السياسي البرامجي.

5- نفور واعتزال العديد من القيادات السياسية عن الخوض في صراعات ضيقة مما فتح الباب لترشح العديد دون أي أسس من العمل السياسي وإنعكس ذلك على جودة التشريعات والأدوار الرقابية والسياسية للمجلس.
6- في ظل ما ذكر ومع تصاعد حجم وقوة القوى الظلامية والإرهاب الذي يكفر المجتمع ومؤسساته أصبحت الهوة واسعة وتتسع بين الفهم المدني للمجتمع ومؤسساته وبين ذلك الفهم الأوتوقراطي الذي يحيل على الآخرة وليس الدنيا والانخراط في تنافس ديمقراطي مجتمعي عمادة الصندوق الإنتخابي. خصوصا" بعدما تأثرت أيضا" صورة القوى والأحزاب السياسية الإسلامية ذات التوجه المتفق مع ذلك التنافس الإنتخابي.

وعلى الرغم من الإجماع الوطني على أن الصوت الواحد كنظام إنتخابي أدى إلى ما أدى من أدوار وأحدث ما أحدث من أضرار وتصدعات إلا أن الحاجة لقانون إنتخاب آخر لوقف النزيف المجتمعي والسياسي والتنبيه إلى الأخطار الداخلية والخارجية دفع الدولة إلى التفكير بتشريع قانون إنتخاب جديد يلبي الطموحات والتوقعات ويسهم في علاج ما ذكرناه من تصدعات.

وجاء القانون الذي تم بموجبه إنتخاب المجلس التاسع عشر ليمثل خطوة إلى الأمام على طريق القوائم الإنتخابية , خصوصا" بعد الفشل الذريع الذي عاشه قانون القوائم الوطنية والعيوب التي شابته وأسهمت في تكريس ذات الأعراض والأمراض لنظام الصوت الواحد.

وبالعودة للقانون ساري المفعول فإننا نرى أن الخطوة التي خطاها كانت مهمة إلا أنها خجولة وتحتاج بالتأكيد إلى مراجعة وتطوير شجاع لإخراج قانون إنتخاب عصري يدفع باتجاه تحالفات أكثر اتساعا" وبالتالي قد تنعكس استمرارا" على العمل ما بعد الإنتخابات في تشكيل كتل ذات جوامع برنامجية . لقد كرس القانون الحالي نجاح ما لا يزيد عن نائبين عن الكتلة القائمة الواحدة مما أدى عملا" إلى ظهور ممول له الفرصة الأكبر في النجاح في حين يتحول الباقين إلى عدد يستكمل القائمة حينا" ويوفر فرصة الظهور الأولى للبعض حينا" آخر.

من نافلة القول أن العمل البرلماني وبالتحديد النيابي القائم على البرامج التي تقف خلفها كتل هدف تسعى المجتمعات النامية لتحقيقه كجزء من أي برنامج إصلاح سياسي يخرجها إلى عوالم الممارسة السياسية الحديثة القائمة على تداول السلطة والتنافس عبر الصناديق الإنتخابية ضمن برامج تلقى حوارا" مجتمعيا" عميقا".

إلا أن ذلك لابد له أن يستند إلى إرادة وتوافق القوى المجتمعية الفاعلة وتوفير العوامل الموضوعية الكفيلة بحماية الطريق المؤدية له وبالتالي تطبيقه التدريجي .

فالتعامل المنهجي مع مجريات التحول والإصلاح السياسي الهادف إلى تصحيح وتعديل المسار السياسي متطلب أساسي من متطلبات عملية الإصلاح المنشودة, وهذا يعني بالضرورة نضوج وعي القوى والتيارات وتوافقها على شكل وجوهر الدولة المستهدف أيضا" ليس فقط كنظام سياسي من حيث التقنيات الدستورية - على أهميتها - . بخلاف ذلك نكون إما أمام حالة تعطل واستعصاء سياسي ومجتمعي أو أمام إحتقان وإصطفاف قد لا تحمد عقباه.

وأجدني وبصراحة في الصف الداعي للشكل المدني للدولة من حيث المؤسسات والقيم التي تمثله . القانون هو الفيصل بين الجميع. الجميع في درجة واحدة وهي المواطنة لا سواها. الحوار هو الأداة والتنافس الديمقراطي الشفاف هو الحكم.

لا يمكن حسب رأيي التفكير بإصلاح المؤسسة النيابية بمعزل عن برنامج وطني شامل للإصلاح , في المدارس والجامعات والمصانع والمزارع ...في المجتمع بكليته. يستهدف هذا البرنامج ويميز بين مراحلة الانتقالية وتلك النهائية. يحدد هذا البرنامج الأعمال التحضيرية ويتبنى جدولا" زمنيا" تنفيذيا" لتحقيقها.

إن المسؤولية في كسر حلقة الجمود السياسي ونواتجه البرلمانية تقع على عاتق الجميع وعلى كافة المستويات دون إستثناء. القوى والأحزاب السياسية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بمراجعة برامجها وخططها وأدواتها السياسية والتوجيهية نحو المزيد من العمل السياسي المشتبك مع قضايا الناس المعيشية والسياسية على حد سواء.

كم أنها مطالبة أيضا" بالخروج من دائرة نفي الآخر والترصد السياسي العقيم نحو رحابة التنوع والقبول والتنافس الديمقراطي.

وعلى الجهة الأخرى فإن قوى الممانعة لنشأة حياة سياسية حداثية - وأحزابها ونقابات ومؤسسات المجتمع المدني - عليها أيضا" إعادة النظر في عواقب استمرار هذه الحالة التي وصفناها وبالتالي تقدير النواتج غير المنضبطة المحتملة.

وفي جوانب أخرى فلا ننسى الأدوار التي هي من صلب المطلوب من فئات وقوى مجتمعية مثل المثقفين والفنانين والصحفيين وغيرهم في الإستمرار في تحفيز الطاقات وتنشيط الحوارات وإخراجها من إطار العدمية واليأس.

الحاجة لمؤتمر وطني تربوي ما تزال قائمة بل وملحة ولكنني أدعو إلى تحقيق ذلك ليس من خلال تنظيم حدث احتفالي على مدار أيام لتقدم فيه طروحات نظرية جافة بل ورشة حوار مجتمعي ينخرط فيها كل أصحاب العلاقة للوصول إلى إستراتيجية وطنية تربوية محددة الأهداف والمضامين.

إن ما ذكر قد ينسحب على العديد من القطاعات الحيوية التي هي بحاجة إلى رؤى وأهداف إستراتيجية . وفي هذا السياق فإنني أدعو إلى المزيد من البحث والدراسة للمنتج الوطني الذي تضمنه تقرير حالة البلاد والصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي. 

إن الناظر إلى ما تضمنه هذا الجهد الجوهري ومخرجاته وما استند إليه من دراسات وتقارير فرعية وإحصاءات إلى جانب الموضوعية العلمية في الطرح والتناول ليجد أن مثل هكذا جهود هي بحاجة إلى متابعة وحوار ونقاش متعمقين للتحول من وثيقة نظرية إلى أداة حقيقية بيد أبناء الوطن.

لقد أسس التقرير المذكور وفي كافة القطاعات لإطلاق مراجعة موضوعية مستندة إلى معطيات وحقائق وجاء ليلقي الضوء على الصورة المجتمعية بكليتها. إن إهمال ضرورة التراكم في الجهود يجعلنا دوما" ندور حول نقطة الإنطلاق لا نغادرها.

قد يتسائل البعض فيما إذا كنت قد خرجت عن موضوع البحث في هذه الورقة بالتطرق إلى موضوعات تبدو خارج نطاق التجربة النيابية ودراستها ولكنني أود أن أؤكد على أن لا تجربة نيابية ناجحة ولا كتل مستمرة ولا مدونة سلوك ولا نظام داخلي يمكن له أن يحقق الأهداف المرجوة والتي نصبو لها بدون القيام بالعمليات الأولية التي تمثل البنية التحتية لنجاح المسار النيابي.

لا يمكن تحقيق تجربة نيابية بدون صحافة وطنية مسؤولة تسهر على إيصال الحقيقة بدون تلميع أو إهدار وإغتيال للحدث والشخصيات, صحافة مثقفة تؤمن بالمستقبل وتترجم ذلك قيمة" مجتمعية خلاقة وهادفة.

لا حياة سياسية دون تعليم ومؤسسات تربوية خلاقة مبدعة.
لا حياة سياسية دون مخرجات قيمية للمجتمع يحصن نفسه من الآفات والأمراض التي لا أسهل من انتقالها في ظل فضاء رقمي مفتوح.
لا حياة سياسية دون قانون انتخابات عصري تمثيلي ورقابة فاعلة على سير العملية الإنتخابية وضمان نزاهتها وشفافيتها.
لا حياة سياسية دون تجذر قيم المواطنة والمساواة ومحاربة الفساد والمحسوبية.
لا حياة سياسية دون مؤسسات مجتمع مدني قادرة على تمثيل قطاعاتها .
لا حياة سياسية دون قيم القبول والتنوع واحترام الرأي والرأي الآخر.
لا حياة سياسية إذا لم يكن الوطن وطنا", شبابه يبنون فيه الحجر فوق الحجر مسكنا" ومعملا" ومدرسه, لا يسعون للهجرة ولا يحلمون بملاذ غير أوطانهم. وبالتالي دون الإجابة على سؤال المستقبل للأجيال كيف لنا أن نفكر بممارسة سياسية صحية وسليمة؟
لا حياة سياسية ورأس المال الوطني مرعوب وخائف من الإستثمار في وطنه وتراه يقفز إلى أي فرصة تحقق له عوائد دون النظر إلى دوره الوطني, فكيف نجيب اليوم عن كون الأردنيين من أكثر المستثمرين عقاريا" في دول عديدة؟
لا حياة سياسية دون المسؤولية المجتمعية لرأس المال؟ دون إيمان وتجذر القناعة بالاستثمار في القيم المجتمعية وتحصينها .

كيف نجيب عن أرقام الودائع المتراكمة في البنوك وعجلة الاقتصاد في تباطأ حد التوقف والشلل التام؟
لن نحتاج مدونة سلوك لو أفرز المجتمع قانونا" يسمح للجميع بالتقدم نحو الترشح وليس لمن يملك فقط.

أود أن أختم حديثي لكم بأننا بحاجة لورشة إصلاح سياسي مجتمعي تربوي إقتصادي.

عندها سنلتقي فقط لمناقشة إيجابيات التجربة الديمقراطية والنيابية تحديدا"

عاش الأردن .....عاش شعبه ......عاشت قيادته

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


- ورقة عمل قدمت في المؤتمر الوطني "30 عاماً على استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن"، والذي نظمه مركز القدس للدراسات خلال الفترة 29- 30نيسان/ ابريل 2019، في الاردن- عمان.

https://www.alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=2437