A+ A-
الحراك الجزائري: بين النجاحات والإخفاقات*
2022-01-16

الكاتب : زين العابدين غبولي، ناشط سياسي وباحث في العلاقات الدولية/الجزائر.

في 22 فبراير 2019، نزل ملايين الجزائريين إلى الشوارع للاحتجاج على محاولة الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة التّرشح لعهدة خامسة. مثّل هذا اضطرابًا سياسيًا كبيرًا في تاريخ الجزائر الحديث منذ الاستقلال في عام 1962. لقد شكّلت الموجة غير المسبوقة من الاحتجاجات، المعروفة باسم "الحراك"، الجزائر على مدى السنوات الثلاث الماضية. منذ ذلك ، تعيش الجزائر فترة التمديد المبهم للوضع السياسي الغامض مع القليل من الإصلاحات السطحية. رغم ذلك، لا تزال الحالة الجزائرية تمثل مثالًا فريدًا وتوضيحيًا لديناميات الاحتجاج في المنطقة. على الرغم من أوجه القصور، فإن تجربة الحراك الجزائري تقدم دروسًا قيّمة حول محاولات دمقرطة المنطقة.

في هذا الصدد، فإن تقييم ديناميكيات الاحتجاج هذه ضروري لتأسيس فهم لواقع اليوم. إن الوضع الحالي للجزائر هو في الواقع انعكاس للممارسات القديمة ونظام الحكم، ولكنه أيضًا نتاج ديناميكيات الاحتجاج لعام 2019. وفقًا لذلك، من الصعب تخيل الآفاق المستقبلية للجزائر دون فهم عميق ومتوازن لأحداث 2019 وما بعدها. أيضًا، سيسمح مثل هذا التقييم بوصف أكثر إنصافًا ودقة لحقائق الجزائر، على الصعيدين المحلي والدولي. لذلك، تهدف هذه الورقة إلى تقديم سرد موضوعي لقصة الحراك للوصول إلى نتيجة حول مسار الجزائر المستقبلي.

كما هو الحال مع مختلف الحركات الاحتجاجية، فإن التقييم الصحيح يأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل التي أسست الحركة وأثرت عليها. في هذا السياق، فهم نتائج الحراك الجزائري يكمن أيضًا في تحليل العوامل المحلية والدولية. بعد ثلاث سنوات من بداية الحراك، من الواضح أن هناك ثلاثة عوامل شكلت، طوّرت وأنهت الحركة الاحتجاجية. أولاً، أدى تصور الحراك غير المنظم لنفسه والتغيير السياسي إلى نهج تفاعلي وغير متماسك ومنقسم. علاوة على ذلك، استفاد النظام من هذا الواقع من خلال الآليات المختلفة التي هدفت إلى نزع شرعية الحراك. أدت الديناميكيات المحلية إلى استجابة دولية حذرة ولكنها محدودة حافظت على الوضع الراهن. ومع ذلك، فإن الوضع الرّاهن يواجه اليوم العديد من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإقليمية التي قد تجدد مرة أخرى ديناميكية احتجاجية أخرى.

الحراك: في تكوين الحركة، أدواتها وتحدياتها

كانت الاحتجاجات الشعبية في الجزائر لعام 2019 هي الأطول عبر تاريخ البلاد، وانتشرت عبر طبقات ومناطق مختلفة. لم تشهد الجزائر اضطرابات سياسية مماثلة منذ انتفاضة عام 1988، التي أدت في النهاية إلى اندلاع حرب أهلية. علاوة على ذلك، تمكنت إدارة بوتفليقة من استرضاء الجزائريين لمدة عقدين من الزمن باستخدام سياسات الرعاية الاجتماعية في سياق جيوسياسي غير مستقرّ بشكل متزايد. بهذا المعنى، من المهم ملاحظة الصدمات الجماعية للجزائريين والظروف الاجتماعية والاقتصادية والوقائع الإقليمية عند تقييم تطوّر مطالبهم السياسية. علاوة على ذلك، تميزّت نشأة الحراك وتطوره إلى حد كبير بثلاث خصائص داخلية، تكوينه وأدواته وتحدياته.

تكوين الحراك

مع خروج الجزائريين إلى الشوارع في فبراير 2019، كانوا على وشك رسم تصور شامل لبلدهم منذ عقود. بعد سنوات من الانعزال السياسي والتهميش، قررت مجموعات مختلفة من المجتمع بما في ذلك الشباب والنساء تحدي النظام الحاكم. من الأهمية بمكان تسليط الضوء على الطبيعة المتنوعة والواسعة للاحتجاجات المبكرة لفهم حجم الحركة وتقدمها بمرور الوقت. خلال الاحتجاجات الأولى، ساهمت جميع شرائح المجتمع في التعبئة الشعبية. تم تجاهل الاختلافات العميقة بما في ذلك الاختلافات السياسية، والأيديولوجية، والإثنيّة، والإقليمية، والجيليّة، والسوسيواقتصادية، والجنسية في البداية. كل هذا أنتج حركة احتجاجية غير متجانسة وبلا قيادة وغير منظمة.

من حيث الجوهر، كانت طبيعة الحراك الجزائري نتيجة اتفاق سياسي. اعتبر الفاعلون السياسيون أن محاولة بوتفليقة الخامسة كانت خيارًا سيئًا يجب معالجته. لذلك من الضروري مراجعة ديناميكيات الاحتجاج حسب نقطة انطلاقها. الوحدة التي انعكست في البداية مثلت حالة مؤقتة من الإجماع الوطني. خلص الجزائريون إلى أن التغيير مطلوب، لكن بدون فكرة واضحة أو خارطة طريق للنتيجة المرجوة. في الواقع، كان من المحتّم أن يواجه هذا الاتفاق المؤقت تحديات بمجرد استقالة بوتفليقة. ونتيجة لذلك، ظهرت عدة مجموعات من شبكات سياسية مختلفة تؤيد رؤى مختلفة وأحيانًا متضاربة. في النهاية، انقسمت صفوف الحراك إلى معسكرين إصلاحي وراديكالي.

تم توضيح تجزئة الحراك إلى مفهومين متضاربين من خلال مزيد من الخلافات الأساسية. عندما انطلقت الحركة في عام 2019، شملت جميع المناطق في الجزائر، مما جعل التغيير السياسي هدفًا مشتركًا. مع مرور الوقت، انسحبت عدة مناطق محرومة ومحافظة من مظاهرات الجمعة المعتادة لصالح خارطة طريق النظام. علاوة على ذلك، مع استقالة بوتفليقة، بدأت الخلافات الصغيرة الأساسية تظهر بين النشطاء. جاءت أزمة كوفيد -19 في عام 2020 للإعلان عن انتهاء الحراك حيث أوقف المتظاهرون مسيراتهم من أجل الصحة العامة. حتى مع الإشارة إلى بعض الاحتجاجات الطفيفة في عام 2021، انتهى الحراك في نسخته الأولي. على الرغم من أن تجربة الحراك استخدمت أساليب متنوعة.

أدوات الحراك

عندما ثار المجتمع الجزائري في عام 2019، كان في الأساس يستعيد الفضاء العام بعد سنوات من القمع. بهذا المعنى، ليس من المستغرب أن تكون الاحتجاجات الشعبية هي أداة التعبير الأولى للجزائريين. كما كان متوقعا أن هذه الاحتجاجات لن تكون كافية لرواية قصة النضال الجزائري. وبناءً على ذلك، مثلت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا أداة قوية للحراك للديمقراطي. لذلك، من الضروري مراجعة الاستراتيجيات المختلفة المدرجة في هذين الشكلين الرئيسيين من الاحتجاجات.

كانت مظاهرة الحراك الأولى في 22 شباط / فبراير 2019 بمثابة رد فعل شعبي عفوي. في هذا السياق، من الملاحظ كيف كانت الهتافات الشّعبية المستوحاة من أغاني كرة القدم الشبابيّة سائدة باعتبارها الخطاب الأولي للانتفاضة. وهذا يشير إلى أهمية الفئات الشعبية والشبابية المهمشة في الجزائر في هذه الاحتجاجات. مع تقدم الحركة، استخدم الجزائريون أشكالًا متنوعة وأكثر إبداعًا من التعبيرات. وشمل ذلك لافتات الاحتجاج، والاعتصامات، والعروض الموسيقية، والمناقشات العامة. كل هذه الاستراتيجيات استفادت من المشاركة النشطة للشباب وأظهرت تطلّعا حقيقيًا للمزيد من الحريات المدنية والسياسية. تطلّب هذا التطلع واللهفة للمزيد من الأدوات، بما في ذلك النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي.

لن يكون من المبالغة القول إن وسائل التواصل الاجتماعي شكلت قوة الحراك وضعفه. حتى لو ظلت الاحتجاجات شكلاً لا جدال فيه من أشكال التعبير السياسي، فإن تغطية الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كانت حاسمة في الضغط على السلطات الجزائرية. لم تعد إدارة بوتفليقة تستفيد من احتكار المعلومات، الأمر الذي مكّن النشطاء من مشاركة قصتهم. في هذا الصدد، فإن التنوع الذي كان يمثل في يوم من الأيام قوة الحراك أصبح ذي نتائج عكسية عندما باتت وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة مكبر صوت للخلافات الأيديولوجية. فقد الحراك زخمه حيث أضعفت حملات التشهير والدعاية صفوف المتظاهرين، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2019.

تحدّيات الحراك

فرض هيكل وأدوات الحركة الاحتجاجية الجزائرية مجموعة من التحديات التي يجب مواجهتها. وبهذا المعنى، كان من الواضح أن أوجه القصور في تنظيم هذه الحركة يمكن أن تؤدي إلى تجزئتها. افتقرت المجموعات المختلفة التي شكلت الحراك إلى قيادة واضحة خوفًا من القمع السياسي. ومع ذلك، أصبح هذا الخوف خللاً وظيفيًا للحركة التي رفضت أي شكل من أشكال الحوار مما أدى في النهاية إلى مقاربات شعبوية. ونتيجة لذلك، بدأ الحراك يفقد سلطته لأن شبكات التعبئة غير الرسمية بما في ذلك الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وأحزاب المعارضة فشلت في إيجاد أرضية مشتركة. كانت هذه الفوضى هي التي أدت لاحقًا إلى عدم وجود خارطة طريق.

كانت صرخة الجزائريين من أجل الحرية في عام 2019 انعكاسًا للمشهد السياسي الفارغ بشكل عام. حتى مع إصابة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بجلطة دماغية عام 2013، ظلت النخبة السياسية غير قادرة على توفير بديل. وفرض ذلك الولاية الرابعة لبوتفليقة وترشيحه لولاية خامسة. وبالمثل، وعلى الرغم من الفشل الواضح للنظام، فإن الحراك الجزائري لم يكن أكثر نجاحًا. في الواقع، ظهرت عدة مجموعات ذات برامج سياسية مختلفة. لكن في النهاية، لم تتمكن هذه المجموعات من بدء حوار داخل الحراك من شأنه أن ينتج خارطة طريق سياسية قابلة للتطبيق. طبعا جرت بعض المحاولات لتنسيق جهود المعارضة لكنها لم تسفر عن نتائج عملية. أدى هذا العجز إلى ظهور مطالب جذرية وغير واقعية.

بعد الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل لعام 2019، كان من الواضح أن الحراك الجزائري سيواجه أزمة وجودية. لم يعد الشعار الشعبي "يتنحّاو قاع!" قادرا على حشد المتظاهرين لأن معظم الشخصيات الرئيسية والرمزية في عهد بوتفليقة تم إبعادهم. ولأن الجزائريين اتفقوا ضد بوتفليقة واختلفوا على ما يأتي بعده، لم يتمكنوا من تجاوز الشعارات التقليدية إلى مطالب ملموسة. وبالتالي فتح هذا الباب أمام شعارات متطرفة ومسيّسة استهدفت أجهزة الدوّلة الاستخباراتية في نهج يعود إلى الحرب الأهلية في التسعينيات. في نهاية المطاف، كانت الشعارات موجهة بالكامل وفق توجّه الخلايا الإسلاميّة المنتمية إلى الحرب المذكورة سابقاً. كما هو متوقع، ساعد هذا النظام في تنفيذ خارطة الطريق التي وضعتها القيادة العسكرية.

نظام ما بعد بوتفليقة: بين الهشاشة وإعادة التّكوين

شكلت نهاية عهد بوتفليقة نقطة تحفيز مهمة للمؤسسة السياسية الجزائرية. وبقدر ما كان ذلك نتيجة طبيعية لحالة الغليان، فقد كان أيضًا اختبارًا جادًا لوحدة النخبة الحاكمة وقدرتها على التكيف ومرونتها. في هذا الصدد، يقدم الحراك الجزائري رؤى مفيدة حول رد فعل ونهج نظام البلاد. يمكن أن يساعد هذا في فهم أفضل لتطوّر الأنظمة الهجينة حيث لا يزال التحول الديمقراطي يمثل تحديًا. وفقًا لذلك، من المثير للاهتمام ملاحظة الديناميكيات الداخلية للنظام وطرقه المضادة وعملية إعادة التأهيل.

ما بعد بوتفليقة

نمت المؤسسة السياسية الجزائرية بعد الاستقلال لتصبح كيانًا غامضًا وصلبًا. على الرغم من الاضطرابات العديدة في أعوام 1965 و 1988 و التّسعينيّات و 2011، فقد أثبتت قدرتها الكبيرة على البقاء متّحدة في مواجهة الأزمات. ومع ذلك، فإن من سمات النظام أن ينأى بنفس عن بعض مراكز القوى عندما تهدّد بقاءه. يوضح نهج السلطات الجزائرية منذ عام 2019 بدقة الطرق التي يحافظ من خلالها النظام على توازنه الداخلي. يتكون النهج النّظامي من عمليتين أساسيتين: التفكيك وإعادة التأهيل. كان هذا واضحًا في الطريقة التي تبرأت بها السلطات الجزائرية من عهد بوتفليقة وأعادت بناء واجهة مدنية جديدة بالكامل.

في فبراير 2019، كان من المستحيل تخيل بقاء أي مسؤول في النظام. أدت الموجة الشعبية القوية إلى زعزعة استقرار المنظومة الحاكمة بطريقة غير مسبوقة. وسرعان ما بدأ حلفاء بوتفليقة في التخلي عنه مما أدى إلى استقالته بعد اعتراض الجيش الواضح على خططه. ومع ذلك، شرعت القيادة العسكرية في تفكيك شبكة بوتفليقة من خلال التحقيقات والمحاكمات المتعلقة بالفساد. سجن المئات من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين رغم أنهم استفادوا فيما بعد من براءة قضائية. في هذا السياق، سلطت قيادة الجيش الضوء على خيار المؤسسة المتمثل في قطع جذورها الأكثر فسادًا. لم يكن الهدف من هذه العملية تفكيك النخبة الحاكمة بالكامل، بل تفكيك "أسطورة بوتفليقة" لتمهيد الطريق لأخرى.

بعد انتخاب تبون، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن السلطات الجزائرية تعيد بناء واجهتها المدنية. كان سلفه رئيسًا لمدة عقدين من الزمن بسبب مراكز القوى المختلفة المتمحورة حول الأسطورة التي أنشأها وعززها. بهذا المعنى، تطلب بقاء النظام الجزائري ظهور رواية رسمية جديدة تنزع الشرعية عن إرث بوتفليقة وتهيئ الأرضية لإرث جديد. وهكذا، ركز خطاب السلطات على الوعد بـ "الجزائر الجديدة" التي أصبحت رؤية الرئيس تبون. لم ينه هذا الصراع الداخلي بعد بوتفليقة، لكنه وضع نهجًا جديدًا للسلطات للتعامل مع المعارضة، ممثّلة في الحراك.

نهج النّظام: محاباة، قمع، دعاية رسمية

الجزائر ليست جديدة على الحركات الاحتجاجية؛ لقد عرفت العديد على مر السنين. في هذا السياق، كان لدى السلطات دائمًا خيارات مختلفة من حيث معالجة أصول وأعراض الحركات الاجتماعية. لكن الظروف المختلفة فرضت أساليب مميزة تتكيف مع الوضع والتوقيت والاعتبارات الدولية. شهدت بداية الحراك ظهور المحاباة كأداة متجددة للتلاعب السياسي. وبهذا المعنى، وضع بوتفليقة أولاً وتبون من بعده عدة مبادرات لجذب المعارضة الحزبية والشعبية. تضمنت هذه المبادرات عروضا للحوار ومناصب مختلفة. على الرغم من أن أولئك الذين رفضوا مثل هذه الأساليب كانوا يواجهون أساليب قمعية أخرى.

كان حجم حراك 2019 يعني أن القمع البوليسي المباشر ليس خيارًا حكيمًا. ونتيجة لذلك، أبدت السلطات الجزائرية ضبط النفس حيث وعد رئيس أركان الجيش السابق بحماية المتظاهرين. وقد وجه ذلك نداءً إلى السكان المحليين وسهل أشكالًا أخرى من القمع الموجه. كان العديد من الشخصيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحفيين ضحايا حملة اعتقالات واسعة قبل انتخابات ديسمبر 2019. حتى لو اختار الرئيس تبون العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين، فإن هذا القمع يكرر نفسه عشية كل موعد انتخابي. وهذا يشير إلى أن السلطات حريصة على إبقاء الأصوات المحتبسة في المشهد السياسي فقط. وللحفاظ على الرضا الشعبي عن مثل هذا القمع والمحافظة عليه، تستخدم السلطات تكتيكات دعائية مختلفة.

منذ بداية فبراير 2019، أصبح من الواضح أن السيطرة على السردية أمر بالغ الأهمية لنجاح أي من الطرفين. بما أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت أداة مفيدة للحركة الاحتجاجية، فقد أصبحت هدفًا للسلطات. أدركت النخبة الحاكمة أن استراتيجيات القمع التقليدية لن تنجح في ظل التطور التكنولوجي للجيل الجديد. لذلك، تورط الجهاز الأمني في حملة تشويه ضد النشطاء باستخدام بطاقة "التدخل الأجنبي". اتُهم الفاعلون السياسيون والاجتماعيون بخدمة مصالح وكالات الاستخبارات الأجنبية، مما يشكل "تهديدًا للأمن القومي الجزائري". تأسست هذه الرواية على بعض المشاعر المحافظة والقومية بين المناطق الريفية والمحرومة في الجزائر. في النهاية، فضلت الأغلبية الصامتة الوضع الراهن للنظام وكانت متشككة من شخصيات المعارضة. وقد ساهم ذلك في ترسيخ الإدارة الحالية كقيادة سياسية.

تصلّب النّظام

مع اندلاع الاحتجاجات في فبراير 2019، تعرض النظام لضغوط هائلة لسن إصلاحات سياسية مؤجلة. أدى الغياب الطويل للرئيس السابق بوتفليقة إلى انعدام الثقة التام بين النظام والمواطنين. في هذا السياق، وكما ثبت تاريخيًا، فضّل النظام دوما تجديد مؤسساته كاستجابة نهائية للمحتجين. وعليه، أجريت الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول 2019 رغم الضغط الشعبي. علاوة على ذلك، تم تنصيب عبد المجيد تبون كرئيس على الرغم من انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات.

أشارت الانتخابات الرئاسية إلى توجه ذهني للسلطات الجزائرية. كان من الواضح أن النخبة الحاكمة ليست مستعدة بعد للتفاوض بشأن بديل محتمل للعقد الاجتماعي لما بعد الاستقلال. حتى مع وفاة رئيس أركان الجيش السابق، قايد صالح، في كانون الأول / ديسمبر 2019، ظلت خريطة الطريق كما هي. وبهذا المعنى، تم إجراء استفتاء دستوري وانتخابات تشريعية ومحلية مبكرة طوال الفترة 2020-2021. في النهاية، أنتجت هذه الأجندة الانتخابية نفس النخبة الحاكمة القديمة مع بعض التغييرات الطفيفة. لذلك كان النظام قادرًا على تجديد نفسه وتعزيز سلطته محليًا.

على الصعيد الدولي، صحيح أن السلطات الجزائرية فقدت شرعيتها عشية الحراك. لقد نظر الكثيرون إلى المؤسسة الحاكمة في الجزائر بقدر كبير من الشك لأنهم لم يكونوا متأكدين من قدرتها على البقاء. ومع ذلك، بعد الانتخابات الرئاسية، اتضح أن هذه المؤسسة تمثل وضعًا راهنًا مستقرًا، وقد لا يكون رحيلها بالضرورة إيجابيًا للمنطقة. في هذا الإطار، استفادت السلطات الجزائرية من الجهازين الدبلوماسي والعسكري لاتباع نهج جديد حازم في السياسة الخارجية. وعليه، فقد اكتمل ترسيخ المؤسسة الحاكمة حيث مُنحت الشرعية الدولية اللازمة للتعامل مع القضايا الإقليمية.

السياق الدولي

منذ احتجاجات الربيع العربي الأولى في عام 2011، ظلت مسألة التدخل الأجنبي أساسية لتحقيق الديمقراطية. الجزائر ليست استثناءً من ذلك حتى لو تمكنت من الحد من القيود التي من شأنها أن تسمح بالتدخل الأجنبي في مكان آخر. وبهذا المعنى، مثل الحراك الجزائري فرصة حقيقية للعديد من القوى الإقليمية والدولية. ومع ذلك، فإن نهج الجيش اللاعنفي ووأساليبه الدعائية بالإضافة إلى تشكك المواطنين جعلت أي محاولة دولية في الجزائر خطيرة للغاية. يظل هذا صحيحًا حتى لو جذب الحراك اهتمامًا أكبر بالشؤون الجزائرية أكثر من أي حركة سياسية أخرى عبر تاريخ البلاد.

قبل احتجاجات 2019، كانت الجزائر معروفة بشكل خاص بـ "العشرية السوداء" الدموية طوال التسعينيات. كانت هذه الفترة المؤسفة مناسبة للعديد من المظاهر بما في ذلك التمرد الإسلامي وعمليات مكافحة الإرهاب. لذلك، اكتسبت السلطات الجزائرية درسًا قيمًا في التعامل مع الحركات الاحتجاجية. ولهذا بقيت قيادة الجيش سلمية مما حد من إمكانية القيام بأي مغامرة دولية. علاوة على ذلك، أطلقت هذه القيادة حملة دعائية حول "المؤامرة الأجنبية" مما جعل أي مشاركة دولية كبيرة دليلاً على هذه المؤامرة. وبناءً عليه، اقتصر الفاعلون الدوليون على التصريحات الدبلوماسية دون التدخل في مثل هذا السياق.

في الوقت نفسه، ثبت أيضًا أن التدخل الأجنبي صعب على المستوى الاجتماعي. على الرغم من الدعوات العرضية على وسائل التواصل الاجتماعي للتّدخل الأجنبي، لم تتبن أي جماعة معارضة رسمية هذا المواقف. لا تزال الجزائر محافظة وقومية في الصميم، مما يعني أن التدخل الأجنبي ليس مرغوبًا بالفعل رسميًا ولكنه مرفوض شعبيًا أيضًا. في الواقع، منعت بعض اللافتات الاحتجاجية أثناء المسيرات بوضوح جميع القوى الدولية، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، من التدخل في الشؤون الداخلية. لذلك، ظل الحراك الجزائري مستقلاً إلى حد كبير، على الأقل على المستوى الظاهر، عن كل محاولات التلاعب الإقليمية والدولية. كان هذا بمثابة درس مهم لجميع الحركات الاحتجاجية في المناطق.

دروس الحراك الجزائري

كان الحراك الجزائري حركة ضخمة في تاريخ الجزائر الحديث. لقد بدأ عملية حوار معقدة وشاملة ومترتبة على المجتمع الجزائري ونظام الحكم والرؤية المستقبلية. بغض النظر عن عدم وجود نتائج جوهرية في الوقت الحالي، لا ينبغي أن يكون هذا سببًا لتجاهل هذه الحركة. لقد كان الحراك نتاجًا وضحية لقيوده الخاصة التي سهلت تفكيكه من قبل المؤسسة السياسية الحالية. بهذا المعنى، حملت هذه الحركة الاحتجاجية التاريخية ثلاثة دروس رئيسية تتعلق بتنظيمها وخارطة الطريق ونطاق الحل.

فرضت بداية الحراك الجزائري طبيعته غير المنظمة والخالية من القيادة. كانت القيود المنهجية العديدة وعدم الصلة بالمعارضة الحزبية كافية لنزع الشرعية عن جميع القادة المحتملين. ومع ذلك، فقد أصبح واضحًا أن عدم وجود قيادة يمكن أن يشكل ضغطًا ولكنه لا يمثل بديلاً قابلاً للتطبيق. وبهذا المعنى، من الضروري أن يتم التغيير الديمقراطي من خلال مؤسسات الدولة وأدواتها الدستورية بدلاً من فترة انتقالية غير محسوبة وغامضة. لن يتفاوض النظام على رحيله ما لم يكن مضطراً للقيام بذلك، ولا يمكن لمثل هذا الضغط إلا جبهة منظمة وسلمية. ومع ذلك، فإن هذا يتطلب حزمة واضحة من المطالب والاقتراحات.

تمكن الحراك الجزائري من حشد الأغلبية الصامتة حول قضية لكنه فشل في توفير حل مستدام وموثوق. في هذا السياق، كان الفاعلون السياسيون والاجتماعيون قادرين على إظهار ضعف النظام ولكن دون تصوير أنفسهم كبديل. كانوا يفتقرون إلى خارطة الطريق اللازمة التي من شأنها أن تسمح بالتغيير مع التأكيد على المخاوف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية المشروعة. لذلك، أصبح من الأسهل نزع الشرعية عن حركة مبهمة ليس لديها خطة عمل واضحة لاقتراحها. بعد ذلك، أصبح الحراك مجرد ديناميكية احتجاجية إقليمية مما جرده أيضًا من طبيعته الوطنية.

بالنظر إلى التاريخ الحديث للجزائر، من الثابت أن أي ديناميكية تغيير ناجحة يجب أن تكون وطنية وشاملة. لقد بنى الماضي الاستعماري بالإضافة إلى الحرب الأهلية إجماعًا شعبيًا منهجيًا قويًا على رفض التدخل الأجنبي. علاوة على ذلك، فإن تعقيد المجتمع والنظام الجزائري يستلزم ضرورة إشراك جميع الأطراف المعنية في أي عملية تغيير. بهذا المعنى، فقد الحراك زخمه بمجرد أن ركز على منطقة القبائل الأمازيغية، على عكس طبيعته الوطنية السابقة. نجاح الديمقراطية في الجزائر يستلزم يجب وجود مطلب وجهد وطني. وإلا فإن الدمقرطة سينتهي بها الأمر كتفتت.

في النهاية، لم تكن قصة الحراك الجزائري هي الأكثر إيجابية أو تفاؤلاً بل الأكثر أهمية. بغض النظر عن أوجه القصور، لقد انطلقت مسيرة تغيير عميق في الجزائر. قد يُنظر إلى الوضع الراهن على أنه نهاية دائمة ولكنه ليس كذلك. في نهاية المطاف، من المحتمل أن تؤجج مشاكل الجزائر العديدة موجة أخرى من الاحتجاجات. لذلك، ستكون دروس اليوم مفيدة في مواجهة تحديات الغد.
__________________________________________________________________
*ورقة عمل قدمت في المؤتمر "الشبـاب والمشـاركة السيـاسيـة الصيغ، الأشكال، والتحديات"، والذي نظمه مركز القدس للدراسات يومي 15 و 16 كانون ثاني/ يناير 2022  في الاردن-عمّان.