A+ A-
مفهوم الدولة الحديثة وإشكالاتها في الفكر الاسلامي السياسي المعاصر
2006-05-27
على الرغم من أن التصنيفات التي يُؤطَّر بها الإسلاميون عادة بين "إصلاحي" و"سلفي" و"جهادي" وغير ذلك على أساس درجة تسامحها إزاء درجة انفتاحهم على الشراكة في العمل السياسي وحقوق الإنسان وحسب، إلا أن البحث في طبقات الوعي السياسي للإسلاميين يكشف بنية مشتركة خضعت لتحولات عديدة ومستمرة منذ اللحظة الأولى التي تلقّى فيه المسلمون "مفهوم الدولة" الحديثة إبّان الحقبة الاستعمارية الأوربية الأولى في العصر الحديث، ومن الصعب قبول تصنيفات قادرة على التمييز جوهرياً بين الإسلاميين على مستوى الفكر السياسي، ذلك أن المشكلة الجوهرية واحدة في هذا الفكر، أعني "مفهوم الدولة". وأزعم أن كل التباينات التي تسم الفكر الإسلامي السياسي على المستوى السياسي ترجع إلى الخلل نفسه، وتتناسل عنه؛ لهذا السبب فإن القراءة التاريخية للفكر الإسلامي السياسي يجب أن تلحظ تحولات الوعي بمفهوم الدولة تحديداً وتأثيرات الميراث السياسي الفقهي والتاريخي عليه، وحتى الآن فإن الدراسات المقدمة حول مفهوم الدولة لدى الإسلاميين ـ على أهميتها ـ ما تزال مشدودةً إلى حركة النتائج المترتبة على مشكلة مفهوم الدولة أكثر منها بمشكلة المفهوم ذاته.

أولاً: مقاربة تاريخية
(لاهوت الخلافة: صورة الدولة وظلّ الخلافة)تُقرأ عادة كتابات الإسلاميين على أنها خطابات متعددة في الفكر السياسي الحديث حتى وقت قريب، وإذا كنا شهدنا في السنوات الأخيرة تحولات جديدة في مفهوم الدولة الحديثة لدى الإسلاميين فإننا لم نلحظ هذا الاختلاف بشكل واضح منذ وفادة مفهوم الدولة الحديثة ذاته في عصر النهضة.

ففي عصر النهضة كان المدرك من مفهوم الدولة ليس ككيان سياسي مفارق للخلافة، بقدر ما كان مدركاً منها المجال التنظيمي، فالتنظيمات كانت المدرك الأول وربما الوحيد من مفهوم الدولة آنذاك، سواء أكان هذا عند رفاعة الطهطاوي، أم كان عند خير التونسي (في موضوع الدستور) أم كان قبل ذلك لدى "الوالي" (محمد على باشا)، فقد كان معنياً بالولاية، وطامحاً بتوسيعها على مبدأ لا يختلف أبداً عن مبدأ "الحدود المفتوحة" غير المستقرة في مفهوم الخلافة. على كل حال فإن مفهوم الدولة الحديثة لم يكن قد تبلور بشكل نهائي بعد في أوربا نفسها، لهذا كان التشابه في شكل الكيان السياسي ووظيفة السلطة (نظام سياسي، وسلطة بوصفها نيابة عن المجتمع العام تمارس في حدود معينة على أساس مصالحه) جعلتهم لا يلتفتون إلى التغييرات الجوهرية في مفهوم الدولة، ولم يلفت أنظارهم بعد سوى التنظيمات.

في عهد الإصلاحيين (الأفغاني وعبده والكواكبي) كانت الخلافة العثمانية الإسلامية في مرحلة الاحتضار، وفي مراحل الاحتضار أو "موت الدولة" هذه فإن نهاية الدولة (كما في الرؤية الخلدونية) تنزع إلى العنف والدكتاتورية، وسيطرة أصحاب المصالح على الدولة والسلطان نفسه، لهذا السبب ظهرت تعبيرات جديدة تتعلق بمفهوم الدولة أو لنقل بنطام الدولة الحديثة، شكلت جزءاً من الوعي به، فقد طرحت الشورى استناداً إلى مطابقتها بمفهوم الديمقراطية، لكن الشورى لم تطرح باعتبارها مفهوماً نظرياً وسياسياً ضمن إطار مشروع الدولة الحديثة، بقدر ما طرح باعتباره أداة نضالية ضد استبداد الخليفة والعثمانيين. ولم يكن هناك نقاش جدي لدى الإسلاميين حول مفهوم الدولة، حتى في عصر الإصلاحية، والنقاشات التي دارت بين الإمام محمد عبده وفرح أنطون دارت عموماً حول العلمانية، وأخذت شكل صراع أيديولوجي وليس شكل حوار سياسي حول الدولة. بل إن كتابات عبد الرحمن الكواكبي السياسية لم تكن تركز على مفهوم الدولة الحديثة، بقدر ما كانت تحديثاً لمفهوم الخلافة عبر مفهوم "الجامعة الإسلامية"، وتحرير المجال السياسي من الاستثمار الديني، للتحرر من الاستبداد.

صحيح أن قيام الدولة الحديثة بوصفها واقعاً موضوعياً في العالم العربي والإسلامي لم ينتظر سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية، إلا أن سقوط الخلافة (1924م) الذي كان مدوياً في الوعي الإسلامي خلق لاهوتاً جديداً في الفكر الإسلامي هو "لاهوت الخلافة" (على حد تعبير رضوان السيد) إذ بعد أن أصبحت الدولة الوطنية حقيقة موضوعية أصبح التعامل معها من مبدأ ضرورات الواقع، لكن الخلافة القائمة في الأذهان، والمؤسس لها فقه واسع في التراث الإسلامي الاجتهادي والتاريخي والثقافي لم تحتجب بمجرد السقوط، فقد خلَّف السقوط المريع في إطار الحقبة الكولينيالية (الاستعمارية) ـ والذي رافق ظهور أيديولوجيات علمانية جديدة (بالمعنى الديني الإيماني للعلمانية) مضادة للثقافة الإسلامية تبوأت سلطة الدولة الوطنية الوليدة (في كثير من البلدان العربية، ومصر على وجه الخصوص) ـ وضعاً بدا فيه للإسلاميين أن هناك تماهياً بين "الخلافة" و"الإسلام"، وأن "الأمة" (القومية) توضع في مواجهتهما، لذا كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار لوضع الشريعة (الإسلام) في الواجهة وليس "الأمة"، لقد كان من نتائج صعود الدولة الوطنية "العلمانية" مؤثّراً للغاية في التفاف الإسلاميين ثانيةً حول مفهوم "الخلافة". هذا يفسر إحياء فقه "الخلافة" وتحقيق نصوصه بوتيرة غير مسبوقة على الإطلاق.

غير أن الوقائع الجديدة ـ أعني قيام الدولة الوطنية الحديثة ـ المحدودة بإطار جغرافي ثابت وسلطة وشعب في ظل تفاهم دستوري، خلقت وبأثر من تداخل مفهوم الأمة والخلافة مفهوماً هجيناً: هو "الدولة الإسلامية" الذي نشهده لأول مرة ربما في كتابات الفقهاء وليس في كتابات حركيين إسلاميين، إذ يبدو أن شيخ الأزهر عبد الوهاب خلاف أول من صك هذا المصطلح، في كتابه الصغير بعنوانه ذي الدلالة: "السياسة الشرعية: أو نظام الدولة الإسلامية"، وكان من السهل أن تقود هذه الهُجنة بين مفهوم "الخلافة" ومفهوم "الدولة الحديثة" الإمام حسن البنا ليرفع هذا التعبير (الدولة الإسلامية) باعتباره شعاراً في رسائله الشهيرة، والحقيقة الجوهرية في مفهوم "الدولة الإسلامية" هي :"صورة الدولة وظل الخلافة".

والواقع أن المفهوم الهجين هذا يختزن مضموناً نضالياً لاستعادة الإسلام عبر استعادة الخلافة، أو لاستعادة الخلافة من أجل استعادة الإسلام، فقد حدث ـ كما أسلفنا ـ تطابق تام بين الإسلام والخلافة، ومن مؤشرات هذا النضال أن تكون فكرة الدولة الإسلامية بحد ذاتها مبنية مؤقتة؛ كما تشير كتابات الإسلاميين وعلى رأسهم الإمام البنا.

كان لاهوت الخلافة الثاوي تحت عبارة "الدولة الإسلامية" يمثِّل القاسم المشترك بين كل الحركات الإسلامية، والفارق بينها أن بعضها يعيد مفهوم "الدولة الإسلامية" إلى أساسه (الخلافة) مثل حزب التحرير والحركات الجهادية، فيما يفسر البعض الآخر الدولة الإسلامية بمنطق تلفيقي بالدولة المدنية. وقد عزز ظل الخلافة ومكن للاهوتها في الوعي الإسلامي الصراع الإيديولوجي ومساعي الحفاظ على الهوية في مواجهة ما سمي بـ"التغريب" و"الغزو الفكري" و"الاستلاب" ..الخ، حتى كاد يصبح مفهوم "الدولة الإسلامية" مسلمة من مسلّمات الوعي الإسلامي برمته في نهاية السبعينيات وخصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م.

وعلى الرغم من استقطاب الحركات الإسلامية إلى قطب ديمقراطي برلماني وآخر راديكالي عالمي، إلا أن الفكر السياسي في جوهره ليس مفارقاً على صعيد مفهوم الدولة المبتغاة، وإنما يتموضَع في الوسائل التي تتيح الوصول إلى الدولة الإسلامية.
صحيح أن هذا الخلاف هو ليس خلافاً مفهومياً، لكنه انقلب في نهايته في كثير من الأحيان إلى انقلاب مفهومي، أعني تغييراً مسَّ مفهوم "الدولة الإسلامية"، فقد تخلى عن هذا المفهوم حركات إسلامية كبرى مثل حزب "العدالة والتنمية" التركي ثم "الإخوان المسلمون" السوريون، هذه التحولات تشير إلى أن مفهوم "الدولة الإسلامية" استغرق قرابة قرن كامل ليبدأ فيه بإعادة التفكير خارج إطار لاهوت الخلافة، ليتم الاقتراب بشكل أفضل من مفهوم الدولة الحديثة خارج الأيديولوجيا.

ثانياً: انعكاسات (الحلم)
(إشكالات مفهوم الدولة الإسلامية) أدى مفهوم "الدولة الإسلامية" إلى سلسلة طويلة من التحويرات في مفهوم "الدولة" الحديثة تطال أركان الدولة ووظائفها ونظامها السياسي وأشياء أخرى كثيرة، غير أن هذه السلسلة من التحويرات جميعها تأسست على أمرين: مفهوم الأمة، وعلاقة الدين بالدولة والدولة بالدين.

1. الأمة الدينية والأمة الجغرافية
مفهوم الأمة لدى الإسلاميين هو "الأمة الإسلامية"، أي جميع المسلمين في العالم، وبالتأكيد فإن هذا المفهوم العقدي السياسي يختلف جذرياً مع مفهوم "الأمة" في الدولة الحديثة، لقد أدى هذا المفهوم للأمة إلى اعتبار مفهوم الدولة القطرية دولة "مؤقتة" في إطار مشروع أممي (الخلافة)، في ثنايا ما يعرف بدعوة "الوحدة الإسلامية".

صحيح أن ممارسات كثير من الإسلاميين في عدد من البلدان لم تتعاط مع الدعوة الأممية بشيء عملي، لكنها على أي حال بقيت فكرة نظرية راسخة، وبإمكاننا أن نشهد الآن كيف أن الوطنية يؤسس لها من منطلق "فقه الضرورة"، على أساس: أن "الدولة الوطنية واقع، والإسلام يقبل بهذا على أساس أن الإسلام لا يفرض على المسلمين ما لا يطيقون، من هذه الناحية نعم الإسلام واضح (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة: 286]، الأصل في الإسلام وفي المسلمين أن يكونوا أمة واحدة ودولة واحدة، هذا شيء مسلم ومقرر، وعرفه التاريخ، لكن حينما ابتعدنا عن هذا الواقع لأسباب متعددة فعلى الأقل وحدة الأمة هذه قائمة، بدليل أن المسلمين في جميع الأماكن يحسون أنهم ينتمون إلى هذه الأمة؛ لكن الواقع أننا الآن بيننا وبين الدولة الواحدة ما بين السماء والأرض .

إذن.. ليس مطلوب منا أن تصل هاماتنا وأيادينا إلى السماء، هذا لا طاقة لنا به، فإذن الإسلام ـ سواء على مستوى التدين الفردي أو على مستوى الأمة ـ (لا يكلّف الله نفسا ً إلا وسعها)، ما يطاق وما لا يطاق هذه قضية أساسية الاستجابة إلى القطرية هذا شيء طبيعي سواء كنا ـ لو افترضنا ـ أننا دولة واحدة أو قاب قوسين أن نكون دولة واحدة، نحن المسلمين ـ حتى في هذه الحالة ـ يجب أن يشتغل أهل المغرب في المغرب، ويجب أن يشتغل أهل إندونيسيا في إندونيسيا".

لكن مع ذلك وعلى الرغم من أنه خطاب ضرورة إلا أن هذه الضرورة (كما يبدو من ماهية الضرورة ذاتها) تصلح أساساً قوياً لاستراتيجية فكرية إسلامية سياسية طويلة الأمد للتحول نحو الوطنية كحقيقة تاريخية لا مناص من الاعتراف بها، وهي إذ تكيّف هذا فقهياً على أنه خطاب ضرورة فإنها بذلك تكون قد قدمت خطوة مهمة باتجاه تأصيل الوطنية في الخطاب الإسلامي السياسي الخاص بها.

ثمة مشكلة ينتجها مفهوم "الأمة الإسلامية" هذا في إطار الدولة الحديثة أيضاً، هي مفهوم "المواطنة"، وعلى الرغم من أن بعض الأحزاب الإسلامية السياسية أسست نظرياً للتعامل مع المواطنة بوصفها مساواة مطلقة بين أبناء الدولة، لكن أساسها النظري بقي توفيقياً لم يستند إلى معالجة فقهية جديدة، بقدر ما كان يستند إلى معطيات عملية في الواقع، وكان بإمكان هذه المعطيات الملحوظة في إطار الحراك السياسي الديمقراطي أن تفرز لاحقاً أصولاً فكرية ونظرية حول المواطنة كما هو في الدولة الحديثة، بل ربما كان بإمكانه لو استمر أن يعيد التوازن في مفهوم الدولة الحديثة في الوعي الحركي الإسلامي بسرعة وكان يمكن أن نختصر خسارة سنوات طويلة.

مع ذلك في إطار المواطنة فإن تعريف الأمة بـ"الأمة الإسلامية" يقتضي تعريفاً للأقليات المنطوية في إطار "الدولة الإسلامية"، عموماً سعى كثير من المفكرين الإسلاميين منذ مطلع الثمانينيات إلى إعادة التفكير بمفهوم المواطنة وتفكيك مفهوم "الذميَّة" بإحالة إلى وضع تاريخي تارة، أو بالتأسيس فقهياً له على أساس مبدأ المساواة العام في القرآن الكريم ومقاصد الشريعة الإسلامية، أو بتأويل آيات والنصوص النبوية، أو بالعودة إلى "صحيفة المدينة" الشهيرة (الترابي والغنوشي).

قد يكون كتاب فهمي هويدي "مواطنون لا ذميون" أول كتاب يقوم بإعادة تقويم لمفهوم الذمية في إطار الدولة الحديثة، وربما تكون مساهمة المستشار طارق البشري في إعادة بناء مفهوم المواطنة في "الدولة الإسلامية" على أسس جغرافية ـ بما يتطلب ذلك التحول من اعتبار الدين أساس المواطنة نقلة نوعية باتجاه مفهوم المواطنة للدولة الحديثة.

"ولكن هؤلاء المفكرين [عموماً]، وإن كانوا ينتمون إلى التيار الإسلامي العام، لم يكونوا أعضاء في الحركات الإسلامية الناشطة سياسياً. وعليه فإن أفكارهم لم يتم تبنّيها على الفور من قبل هذه الحركات". وهم على كثرتهم لا يشكلون أغلبية، ما يزال الفكر المدرسي للحركات الإسلامية عموماً يتعامل مع المسألة بدرجة من التوفيق والتناقض دون حسم لها، خصوصاً أن مفهوم الذمية له إرث فقهي كبير في فقه الخلافة وأحكام السياسة الشرعية، ومعظم المرجعيات الإسلامية إلى اليوم لديها تحفظ تجاه موضوع الأقليات غير المسلمة، أو "غير المسلمين في المجتمع المسلم" (كما في عنوان كتاب معروف للدكتور يوسف القرضاوي).

لكن أيضاً لا يمكن أن كثيراً من الحركات الإسلامية مثل "حزب العدالة والتنمية" في المغرب، و"حزب الوسط" في مصر، و"تجمع الليبراليين الإسلاميين" وحركات أخرى في إندونيسيا، و"حزب العدالة والتنمية" في تركيا وغيرهم، وفي السودان الذي قبلت حكومته ذات التوجه الإسلامي بدستور ينصُّ على ضمان المواطنة المتساوية للجميع بعد توقيع اتفاق سلام وشراكة في الحكومة مع حركة التمرد الجنوبية التي يغلب على قيادتها غير المسلمين.

مهما يكن من أمر فإن مفهوم "الأمة الإسلامية" السياسي المنحدر من فقه الخلافة ولاهوتها ما يزال يفعل فعله في الفكر الإسلامي السياسي المعاصر، ومن السهل أن نجد حضور مفاهيم تراثية موازية تتناقض مع مفهوم المواطنة حتى عند محاولة تحديث المفهوم التقليدي لمواطنة الدينية في دولة الخلافة ونقله إلى مفهوم المواطنة الجغرافي الحديث، فعندما يعرف فهمي هويدي ـ وهو أول من كتب مراجعة نقدية لمفهوم الذمية لاستبدالها بمفهوم المواطنة الحديثة ـ عرف الوطنية على الشكل التالي: "تعبير عن جوهر الصِّلات القائمة بين دار الإسلام وبين من يقيمون في هذه الدار من مسلمين وذميين مستأمنين". وبقي مفهوم المواطنة مربكاً حتى اليوم، فيما يتحدث السلفيون والجهاديون عن نفي مفهوم المواطنة الحديثة ومخالفته للشريعة الإسلامية!. ومن السهل هنا أن نفهم كيف اعتمد تنظيم القاعدة ـ في خطابه السياسي لتسويغ هجوم 11 سبتمبر ـ على مفهومي "دار الإسلام" و"دار الكفر" (الفسطاطين كما في أول ظهور لابن لادن عقب الأحداث)!.

يقتضي مفهوم "الأمة" الديني أيضاً عدم الاعتراف بحدود ثابتة، فحدود الدولة متحركة، تمتد مع امتداد أو تمدد المسلمين في أرجاء المعمورة، هذه أيضاً إحدى الإشكالات التي تتفرع عن مفهوم الأمة وتضاد مفهوم الدولة الحديثة، غير أن أدبيات الإسلاميين عموماً لا تستفيض في ذكرها، وغالباً ما تتجاهلها، باستثناء التنظيمات الجهادية الجديدة.

2. الدين والدولة: الدولة والدين
لا يمكن النظر إلى التاريخ السياسي الإسلامي على أنه تاريخ حكم ثيوقراطي (دولة دينية)، ذلك أن لا أحد كان يحكم باسم الإله، بل يحكم بوصفه نائباً عن الأمة، أو مفوضاً عنها، وباستثناء أبو الأعلى المودودي (وربما أيضاً "حزب التحرير") فإنه ثمة إجماع بين الإسلاميين على أن الدولة الإسلامية لم تكن قط دولة ثيوقراطية، لكن مرجعية النظام هي مرجعية نصوص دينية مثبَّتة، ومؤسسة فقهية مفارقة (على الغالب) لولاة الأمر، تشكل هذه النصوص عموماً مرجعية متوافق عليها، يخضع لها الجميع، وبالرغم من أنه جرت محاولات عديدة في التاريخ للتحايل عليها، غير أنها في صميم فكرة "الخلافة" مرجع مفارق يخضع له أولي الأمر ورعاياهم على السواء، وكان ذلك سبباً جوهرياً في انفصال المؤسسة الدينية عن أولي الأمر بشكل مبكر.

ليس لنا أن نبسط نظام الخلاف إلى الشكل الإمبراطوري الذي سبق عصر الإسلام، كما ليس لنا أن نقول إن نظام الخلافة مطابق تماماً للدولة الحديثة مع فروق تاريخية طفيفة قابلة للتعديل، والواقع أن الباحثين وقعوا ضحية هاتين الرؤيتين المختزلتين، ففيما ذهب إلى الأولى الحداثيون، ذهب إلى الأخرى الإسلاميون! ويبدو لنا أن "الخلافة الإسلامية" مفهوم وسيط، بين المفهومين (الإمبراطورية، والدولة الحديثة)، وهو يمثل حالة انتقالية باتجاه الدولة الحديثة، ولا أستبعد أبداً أن تكون تصورات الخلافة الإسلامية في الأندلس كانت ملهمة للأوربيين ومساعدة لهم للانتقال نحو الدولة الحديثة، على كل هذه مسألة تحتاج إلى بحوث خاصة، لكن المؤكد بالنسبة لنا أن نظام الخلافة يحمل أشياء بني عليها مفهوم الدولة الحديثة، وأخرى تشكل جزءاً من الإرث الإمبراطوري الفارسي واليوناني، ولم يكن بالإمكان حصول هذه النقلة لولا مفهوم الشريعة المكتملة والملزمة المفارق للوضع الإنساني، وذلك ما يضع علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين في حيز الالتباس خصوصاً مع ملاحظة تأثيرات الجزء المتعلق بالمنطق الإمبراطوري على نظام الخلافة.

الدستور و(الحاكمية): الدولة الحارسة
ليس في النصوص الإسلامية (القرآن الكريم والسنة الشريفة) ما يمكن أن يكون أساساً لفكرة أن الكيان السياسي للجماعة وظيفته "سياسة الدنيا وحراسة الدين"، فهذه المقولة التي تعرف بها الإمامة في مؤلفات "السياسة الشرعية" و"الأحكام السلطانية"، و"آدابها" كما تشير مراجعتنا لكتب التراث السياسي بشكل حاسم إلى أصول فارسية كسروية، وإذا أضفنا إلى ذلك التطابق الذي حصل في الوعي الإسلامي بين استعادة الدين والخلافة (الذي تجلى في مفهوم "الدولة الإسلامية")، فإننا سنكون أمام مجموعة جديدة من التحويرات لمفاهيم من ملازمات "الدولة الحديثة"، على رأسها مفهوم "الحاكمية".

إن دور الدولة الوظيفي باعتبارها "حارسة للدين" جعل مسألة "حاكمية الله" باعتبارها سيادة الشريعة الإسلامية مساوية لسيادة الأمة باعتبارها أمة مسلمة، فسيادتها يجب (لا يفترض) أن تساوي سيادة الإسلام، وأصبح من السهل بعد ذلك تشكيل تقابل تناقضي بين "حاكمية الشعب" و"حاكمية الله"، والذي يصل أحياناً إلى تعبير "حاكمية الطاغوت" مقابل "حاكمية الله"!

ظهور مصطلح "الحاكمية" (الذي صكه أبو الأعلى المودودي وتلقفه سيد قطب) بحد ذاته كان وليد مفهوم الدولة الإسلامية وتصورها (الذي يمنح من نظرية الخلافة) وصراعها مع الدولة العلمانية (بالمعنى العقدي لا السياسي وحسب العلمانية)، لهذا السبب ظهر شعار "تطبيق الشريعة" باعتباره تحقيقاً للحاكمية، ومن هنا فإن حساسية النخب العلمانية من الإسلاميين وتشككهم المستدام من صدقهم في ممارسة يبدو كما لو أنه يمتلك بعض المسوغات، غير أن الإسلاميين أيضاً رغم إيمانهم جميعاً بضرورة تطبيق أحكام الشريعة يختلفون بالوسائل للوصول إليها، بين تمسُّك بالديمقراطية والقبول بنهاياتها، وأن تكون خياراً شعبياً لا خياراً سلطوياً نازلاًَ من أعلى مواقع الحكم، وبين من لا يقبل بأن تكون مكان مساومة وخيار أمة لا تعرف مصالحها، والمنطق الأخير عموماً تنزع إليه معظم الحركات الجهادية، وكثير من حركات الإسلام السياسي، ولا شك أن النخب العلمانية المستفيدة من السلطة كانت دوماً تستثمر هذه الفكرة للانقلاب على الديمقراطية، أو حرمان الإسلاميين من الاستفادة منها، وقد أثبت التاريخ السياسي لكثير من حركات الإسلام السياسي والإسلاميين المستقلّين ـ وعلى الرغم من إيمانهم بحاكمية الشريعة ـ إلا أنهم كانوا في أحايين كثيرة ملتزمين بالعمل الديمقراطي حتى نهايته، وربما الآن نشهد التزاماً واضحاً بالديمقراطية لدى معظم حركات الإسلام السياسي البرلمانية، لا بل إنه في بعض الأحيان كان الإسلاميون يمارسون السياسة تحت مظلة أحزاب علمانية (كما هو الحال في سورية في فترة الخمسينيات).

لقد كان لتصور دور الحراسة الدينية للدولة الإسلامية أن تخلق شعاراً تعبوياً صاغه الإمام البنا، أعني تعبير "دستورنا القرآن"، وهو تعبير تحشيدي، لكنه أيضاً يوحي باستخفاف بالعمل الدستوري التوافقي، أدى هذا الشعار الذي سهل لشعار الحاكمية ليسود خطاب الإسلام السياسي إلى نوع من غياب النظرة الاحتفالية بالدستور، بوصفه وثيقة توافق، فقد أدى التحشيد الأيديولجي لمفهوم الحاكمية إلى سيادة نظرة وصائية للحركات الإسلامية (مقابلة تماماً للنظرة الوصائية الثورية في العالمين العربي والإسلامي) الذي كانت ضحيته دوماً الأمة ذاتها؛ لهذا قلما يتحدث الإسلاميون عن الدستور، فهم دوماً يتحدثون عن الشريعة.


-ورقة عمل قدمت في مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني " الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في الفترة مابين 27-29 مايو 2006 - عمان - الاردن