A+ A-
الحاجة لاحتواء العرب السنة في العملية السياسية الجارية في العراق
2004-04-21

عريب الرنتاوي

بكل المقاييس، يمكن النظر للانتخابات العراقية الأخيرة، بوصفها محطة هامة على طريق خروج العراق والعراقيين من الأزمة الراهن، فهذه الانتخابات التي جرت في موعدها المقرر نهاية كانون الثاني / يناير الفائت، وبمشاركة ما يقرب من ستين بالمائة من العراقيين، وبالرغم من حالة الفلتان الأمني والتهديدات الإرهابية، أطلقت ديناميكية جديدة في الحياة السياسية العراقية، يصعب وقفها أو التراجع عن منجزاتها.

وللانتخابات العراقية من منظور كثير من المراقبين، دلالات عامة وخاصة، سنشير إليها بشكل موجز، لعل أبرزها: أنها أظهرت توق العراقيين للخلاص من حالة الفوضى الأمنية وتفشي أعمال العنف والإرهاب، وأبرزت توقهم لبناء عراق جديد، تعددي، ديمقراطي، سيد ومستقل، وعكست رغبتهم في المشاركة بإدارة شؤون أنفسهم بأنفسهم، من خلال عملية ديمقراطية ومؤسسات منتخبة، ولا يقلل من شأن هذه الدلالات العامة، أن الانتخابات جرت في ظل احتلال أمريكي صريح للعراق، حتى وإن تغطى باسم قوات التحالف أو القوات متعددة الجنسيات.

ونشير إلى الدلالات الخاصة للانتخابات، والمتمثلة في إقبال العرب الشيعة والأكراد بكثافة على صناديق الاقتراع، ومقاطعة العرب السنة شبه الجماعية لها، فالشيعة العرب، كانوا "أصحاب قضية" في انتخابات وجدوا فيها فرصتهم التاريخية لتصحيح خلل مشاركتهم واختلال تمثيلهم في مؤسسات الدولة العراقية، وهما خلل واختلال، يعودان لأكثر من ثمانين عاما في تاريخ العراق الحديث، بل ويمكن القول أن قادة الشيعة الذين تعلموا الدرس جيدا من انتخابات 2192 التي قاطعوها زمن الانتداب البريطاني، ما كانوا ليفوتوا فرصة لم يتوفر لهم مثلها طوال أربعة عشر قرنا من الزمان.

أما الأكراد، الذين عانوا من التهميش والترانسفير والعقوبات الجماعية زمن النظام البعثي السابق، فقد نجحوا طوال ما يزيد عن عقد من الزمان في تأسيس كيان للحكم الذاتي، يتمتع باستقلالية عالية، مثلما نجحوا في سياق الجهود التحضيرية للحرب على العراق، وفي مؤتمرات المعارضة، ومن بعد في مجلس الحكم الانتقالي وقانون إدارة الدولة العراقية المؤقت، في انتزاع اعتراف معظم الأطراف العراقية بهذا المنجز، وتكريسه كأمر واقع في الحياة السياسية العراقية، توطئة لتكريسه في نصوص الدستور الدائم للدولة العراقية الذي من المفترض أن يقر قبل نهاية العام الجاري.

وما كان للأكراد أن يفوتوا الفرصة لـ "دسترة" مكتسباتهم و"قوننتها"، التي وفرتها لهم الانتخابات الأخيرة، فكانت مشاركتهم في الانتخابات كثيفة للغاية، واحتلوا الموقع الثاني بعد القائمة الشيعية، وبصورة تمكنهم، من تكريس منجزاتهم على أرض الواقع في إقليم الشمال، وضمان حضور وتمثيل كثيفين في مؤسسات الحكم الفديرالية / المركزية، وصولا إلى إعادة ترسيم حدود إقليم كردستان بإستعادة أو ضم مدينة كركوك الغنية بالنفط، والحصول على نصييب مرض من الثروة، وضمان انخراط "البيشمركة" في صفوف الجيش وقوى الأمن العراقية، وفقا لشروط الأكراد وضوابطهم.

لكن مقاطعة الغالبية العظمى من العرب السنة لهذه الانتخابات، ألقت بظلال من القلق والتخوف من مغبة تعميق الانقسامات الأهلية في العراق، صحيح أن الانتخابات مستكملة لشروطها وشرعيتها القانونية، بيد أن الصحيح كذلك، أنها انتخابات فاقدة لنصابها السياسي.

بخلاف الأكراد والعرب الشيعة، كانت الانتخابات بالنسبة للعرب السنة إيذانا ببدء مرحلة الضمور والتراجع، فالاحتكام لصناديق الاقتراع، ومنطق الأكثرية والأقلية، وتمثيل الجميع وفقا لأعدادهم ونسبهم الكلية من مجموع السكان، كان سيفضي حتما إلى تخلي العرب السنة عن مواقع سلطة ونفوذ اعتادوا أن يشغلوها طوال سنوات وعقود، وهم الذي لم يستفيقوا بعد – كثيرون منهم على الأقل – من صدمة الحرب وسقوط بغداد وانهيار النظام البعثي.

كما أدى القرار الأمريكي بحل حزب البعث وتسريح الجيش والأجهزة الأمنية وتفكيك إدارات الدولة، إلى إلقاء مئات ألوف العراقيين على قارعة الطريق، وتركهم نهبا للجوع والفقر والبطالة، وأفضت حالة الفوضى والفلتان الأمني، إلى انتشار أعمال الثأر والتصفيات والسلب والنهب، التي لم تختص بها مؤسسات الدولة وحدها، بل شملت رموز وعوائل وممتلكات عائدة لموظفين كبار في بغداد وغيرها، معظمهم من أبناء هذه الفئة.

وبخلاف العرب الشيعة، الذين تظللهم المرجعية الدينية على اختلاف أحزابهم وتياراتهم، والأكراد العراقيين الذين يكاد ينحصر تمثيلهم في حزبين رئيسين، وجد العرب السنة أنفسهم بعد سقوط نظام صدام حسين في حالة فقدان اتجاه، تتنازع تمثيلهم قوى وأحزاب ومرجعيات عدة، وتنطق باسمهم عشرات الفصائل والمجموعات المتناثرة، بعضها مستورد من دول مجاورة، وساعد في تكريس حالة الشتات عند هذا الجزء من العراقيين، أن الحملة لتصفية رموز النظام السابق، وأركان حكمه وقوته، اندمجت بالحملة لاجتثاث حزب البعث، وهي الحملة التي طالت في سياق تطبيقاتها، مئات وألوف العراقيين، الذين وجدوا أنفسهم ذات يوم، مكرهين على عضوية البعث.

ويمكن للمرء أن يجادل، بأن واحدة من الأسباب الرئيسة لحالة التشتت والتشظي التي يعيشها العرب السنة، إنما تعود لنهج الحكم الديكتاتوري الشمولي الذي جسده النظام البعثي السابق، والذي ترتب عليه إضعاف الحياة الحزبية والسياسية الداخلية وتدمير مؤسسات المجتمع المدني، الأمر الذي لم يبق للعراقين بعد أربعة عقود من الحكم الشمولي، سوى مؤسستان اثنتان: المؤسسة الدينية والعشائر، ولم ينج من عملية التدمير المنهجي المنظم للحياة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في العراق، سوى الأكراد في ملاذهم الآمن، شمالي العراق، حيث أمكن للحزبيين الكرديين العلمانيين الرئيسين، أن يحافظا على وجودهما ونفوذهما المتراكم، وهو ما أتاح للحركة الكردية أن تلعب دورا هاما بعد سقوط النظام وفي أثناء عملية نقل السلطة، وفي العملية السياسية الجارية الآن في العراق.

وبخلاف المذهب الشيعي، الذي يمكّن المرجعيات ورجال الدين ومؤسساتهم من القيام بدور سياسي وثقافي واجتماعي وحتى اقتصادي بارز في حياة أتباع المذهب، فإن أهل السنة لا يجيزون نظرية المرجع والمقلد، ولا يمنحون مثل هذا الدور لرجال الدين عندهم، فهيئة كبار العلماء المسلمين تشكلت بعد سقوط بغداد، مقابل مرجعيات وحوزات شيعية يعود نشاطها لمئات السنين، وتأثير الهيئة على العرب السنة، ظل محدودا على أهميته، فيما برز تأثير المرجعية الشيعية الحاسم، قبل الانتخابات وفي أثنائها وبعدها.
ويخلص المراقب للتحولات السياسية التي طرأت على المجتمع العربي السني في العراق خلال العامين اللذين أعقبا سقوط النظام، يلحظ أن تمثيل هذا الفئة تتوزعه القوى والفئات الرئيسية التالية:

1. هيئة كبار العلماء المسلمين، التي تحظى بثقل معنوي هائل، مكّنها من التدخل في كثير من الأزمات ( الرهائن ) والمساهمة في توفير الحلول والمخارج المناسبة لها، وهي إذ تستند إلى نفوذ شبكة من أئمة المساجد ورجال الدين والدعاة، فإنها تحتفظ أيضا بقدرة على التأثير على بعض الفصائل المسلحة في العراق.

2. الحزب الإسلامي العراقي، المنبثق من رحم حركة الإخوان المسلمين في العراق، والذي يعد امتدادا لها، وهو حزب سياسي، امتلك تاريخيا قواعد نفوذ في المناطق السنية العراقية، وقد شارك في العملية السياسية في مختلف مراحلها السابقة للانتخابات، ووجد نفسه مجبرا على المقاطعة تحت ضغط الرأي العام العربي السني الذي مال في غالبيته العظمى لقرار المقاطعة.

3. حزب البعث، وبقايا أجهزة النظام ومؤسساته الأمنية والحزبية، حيث أمكن للحزب لملمة صفوفه، وفرض نفوذ في عدد من المناطق والأحياء، بعد أن انخرط بنشاط في أعمال عنفية، تحديدا تلك التي تتميز بالتصفيات والاغتيالات واستهداف رجال الأمن والجيش وكبار المسؤولين العراقيين.

4. التيار السلفي الجهادي، وهو امتداد وتنويع للمذهب الوهابي، وهو تيار نشأ في ظل النظام السابق، وبتشجيع منه أو على الأقل "غض نظر" عن نشاطه المتزايد، وتحديدا بعد حرب الخليج الثانية، حيث شعر النظام بالحاجة لموازنة نفوذ التيارات الشيعية المتزايد، سيما بعد انتفاضة الجنوب عام 1991، من خلال تشيجع تيارات سنية، سلفية وأصولية على العمل في العراق، وهذا التيار يشكل الحاضنة لكل المنظمات "الجهادية" بما فيها تنظيم القاعدة وجماعة الزرقاوي وأنصار الإسلام وأنصار السنة وغيرها من القوى التي تعمل في العراق الآن، وتقوم بأعمال إرهابية وعنفية ضد العراقيين والأمريكيين، من دون تمييز بين مدنيين وعسكريين، وتستهدف بشكل خاص، الشعية والمسيحيين في العراق.

5. زعماء العشائر وشيوخها، ولهؤلاء نفوذ لا يستهان به في ظل التركيبة القبلية لبعض مناطق العراق، سيما في الموصل والأنبار حيث التواجد الكثيف للعرب السنة.

6. شخصيات وأحزاب علمانية وليبرالية، استعادت دورها وحضورها في العراق بعد سقوط النظام، لكن الانتخابات الأخيرة، أظهرت النفوذ المتواضع لهذه الشخصيات التي لم تحظ سوى بعدد قليل من الأصوات والمقاعد في الجمعية الوطنية العراقية.

7. عشرات المنظمات والحركات، السياسية والمسلحة التي نشأت على مستوى الأحياء والمناطق في العراق بعد الحرب، ولقد أمكن رصد ما يزيد عن مائة منظمة من هذا النوع، تعمل في أوساط العرب السنة، وتدعي تمثيلهم والنطق باسمهم.

إن هذه الكثرة من الأحزاب والمنظمات والمرجعيات، لا يختص بها العرب السنة وحدهم في العراق، فهي موجودة بهذا القدر أو ذاك، لدى مختلف المكونات السكانية للعراق، بيد أن غياب قوى وتيارات مركزية أو مرجعية كبرى عن العرب السنة، قد ساهم في تبديد تمثيلهم، وإضعاف دورهم الموحد، المؤثر والضاغط.كما أن الممارسات الأمريكية، المدنية والعسكرية، جعلت من الصعب انبثاق تيار عربي سني، أكثر اعتدلا ونفوذا، فتحت شعار "اجتثاث البعث" جرى القذف بألوف العراقيين إلى قارعة الجوع والفقر، ومن ثم المقاومة والإرهاب...وتحت شعار "مكافحة الإرهاب"، جرى المس بحياة وكرامة ومصالح مئات ألوف العراقيين، الذين لم يجدوا طريقهم إلى المشاركة السياسية، فاختاروا طريق مقارعة الاحتلال، واحيانا اللجوء إلى ممارسات إرهابية، ثأرية وانتقامية.

وإذ تركزت أعمال المقاومة والعنف والإرهاب، في مناطق الأغلبية العربية السنية، فقد جاء "التغطية الإعلامية" عن "المثلث السني" أو "مثلث الموت والمقاومة"، لتكرس واقع انفصال هذه الفئة عن العملية السياسية الجارية، بل ولتدفع بقوى انخرطت فيها بقوة، ومنذ بداياتها الأولى، للانسحاب والإنكفاء، كما هو حال الحزب الإسلامي، وعشرات الشخصيات والمجاميع الأقل نفوذا.

تداعيات إقليمية:

ترتب على الفوز الكاسح للقائمة الشيعية الموحدة في الانتخابات العراقية الأخيرة، وما صاحبها من تهميش للعرب السنة وتحجيم لدورهم في معادلة القوى الداخلية في العراق، أن قفزت على سطح الإقليم برمته، مخاوف وتحسبات، من انعكسات وتداعيات قد تمس حالة الاستقرار والسلم الأهلي وتوازنات القوى التاريخية في عدد من دول الإقليم، كما ترتبت عليه مخاوف من مغبة تحول العراق، إلى رأس جسر لنفوذ إيراني متزايد، قد يمتد من منابع نفط الخليج إلى حدود إسرائيل.

والحقيقة أن هذه المخاوف والتحسبات، ما كان لها أن تظهر على السطح، وبهذه الدرجة من القوة والسخونة، لو أن النظام العربي الرسمي، كان قد نجح في معالجة "مشكلة الأقليات" الموجودة في معظم أو جميع الدول والمجتمعات العربية، لكن إخفاق المشروع الديمقراطي الإصلاحي العربي، وتحكم أنظمة "العائلات والحكام المستبدين" ، قد أبقى النار مشتعلة تحت رماد الانقسامات الأهلية في المجتمعات العربية.

وزاد من خطورة هذه المخاوف وجديتها، أن إيران أو على الأقل، تياراتها المحافظة والثورية، لم تتخل بعد عن سياساتها التدخلية في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، ولم تتخل عن "نظرية تصدير الثورة"، بل أنها تعلن صراحة عن استعدادها للقيام بدور "المركز" الذي سيمد يد العون والمساعدة للشيعة في دول "المحيط"...وهي النظرية التي اختبرت في لبنان من قبل وفي عراق ما بعد الاحتلال.

لقد حذر الأردن من خطورة قيام هلال شيعي، يعيد خلط الأوراق والتوازنات التاريخية في المنطقة، وكان بذلك يشير إلى التدخل الإيراني في شؤون العراق الداخلية، واحتمالات وصول تيار عراقي موال لإيران إلى سدة الحكم في بغداد، ولم يكن يمنع على الأكثرية الشيعية في العراق حقها في التمثيل والمشاركة وتشكيل الحكومة الجديدة أو المشاركة فيها.

أما في البحرين، فقد استقبل قادة الأغلبية الشيعية هناك، بكثير من الارتياح نتائج الانتخابات العراقية، وأخذت الحركات الشيعية في المملكة الصغيرة، تنشط بقوة من أجل تعزيز حضورها ومشاركتها السياسية، وهي أخذت تجهر بروابطها الوثيقة مع المرجعيات الشيعية في إيران والعراق، بل ولا تخفي إحساسها بالثقة بأن التغيير في العراق ، سيفضي إلى تغييرات ستمتد بتأثيرها إلى البحرين.

وفي السعودية، فلم يسبق للمملكة الغنية أن شهدت في تاريخها انتعاشا للحركات والمطالبات الشيعية في المنطقة الشرقية منها على وجه الخصوص، كما لم يسبق للشيعة السعوديين أن حظيوا بهذا القدر من الاعتراف بخصوصيتهم، فممثليهم الآن على موائد الحوار الوطني، وفي قوائم المرشحين للانتخابات البلدية، ولوائح مطالباتهم تنتشر بقوة على شبكة الانترنت وفي المدن السعودية.
أما في لبنان، فقد تميزت مواقف التيارات الشيعية الرئيسية: حزب الله وحركة أمل، ببراغماتية واضحة، فالحزب والحركة، لا يخفيان عداءهما للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بسوريا ولبنان، لكنهما مع ذلك لم ينتقدا التحالف الضمني المضمر، بين الولايات المتحدة والتيارات الشيعية الرئيسية في العراق.

فإذا كان شعار المقاومة والعداء لـ "الشيطان الأكبر"، هو وسيلة حزب الله للاحتفاظ بسلاحه ونفوذه الهائل في لبنان، فإن الحزب لن يمانع في صرف النظر عن تحالف شيعة العراق مع الولايات المتحدة، طالما أنه الوسيلة لتمكينهم من المشاركة والوصول إلى السلطة.

إن هذه بلا شك، تطورات هامة، وتحمل في ثناياها دلالات وإرهاصات متناقضة، بعضها إيجابي يدعو للأمل والتفاؤل، وبعضها الآخر سلبي، يستوجب الحذر ويستدعي القلق.
أما الإيجابي منها، فهو "يقظة الأقليات" في العالم العربي، وتحركها النشط من أجل ممارسة حقوقها السياسية والمدنية والثقافية، على قدم المساواة مع بقية المواطنين، فالشيعة في العراق ولبنان والبحرين والسعودية وغيرها من دول المنطقة، هم مواطنو هذه الدول، لهم كل حقوق المواطنة وعليهم كامل واجباتها، وهم كأقليات طائفية، وفي بعض الدول ليسوا أقليات، لهم حقوقا ثقافية ودينية ومدنية، آن أوان استردادها.

أما مبعث القلق في المشهد العراقي والإقليمي الراهن، فنابع من الخشية من تفاقم التدخلات الخارجية في شؤون هذه المنطقة، وأن تتحول بعض الدول والمجتمعات العربية إلى ساحات لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وميادين لخوض المواجهات والحروب بالواسطة ( بالوكالة ) بين دول إقليمية ومراكز دولية، حيث دفع لبنان ثمن هذه اللعبة باهظا في السابق، وليس مستبعدا أن يدفع العراق أثمانًا مماثلة للعبة ذاتها في المستقبل، سيما إذا ما تفاقم الخلاف الأمريكي الإيراني على خلفية برنامج طهران النووي.
مبعث الخشية أيضا، يكمن في المخاوف من العودة لسياسة الأحلاف والمحاور في المنطقة العربية، فالجبهة المتحدة التي أعلن عن قيامها في طهران بين سوريا وإيران قبل بضعة أسابيع، مرشحة إذا ما تفاقمت المواجهة بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من سوريا وإيران من جهة ثانية، لأن تتحول إلى "هلال شيعي" أو "قوس أزمات"، سيما في حال تمكن أصدقاء طهران وحلفائها من الإمساك بزمام السلطة والحكم في العراق، وهي جبهة مرشحة لأن تمتد من طهران مرورا ببغداد ودمشق وانتهاء بجنوب لبنان، مع جيوب داعمة في دول الخليج وغيرها، وتجد هذه الجبهة السياسية المقترحة، حاضنة ثقافية – طائفية لها، تتمثل أساسا في الأغلبية الشيعية لسكان دول القوس المذكور، بمن فيهم نظام الأقلية العلوية في سوريا، التي تربطها أواصر عقدية – دينية بالمذهب الشيعي.

"خريطة طرق" للعراق:
ليس ثمة من خيار أمام المجتمع الدولي سوى البحث عن استراتيجية للنجاح في العراق، ذلك أن عواقب الفشل سترتد بأوخم العواقب لا على العراق، بل على الإقليم برمته، وقد تمتد تأثيرات الفشل إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ما يمس الأمن والاستقرار الدوليين.

وفي ظني أن الدعوات للبحث عن استراتيجية مخرج للولايات المتحدة من "أوحال العراق ورماله المتحركة"، هي دعوات غير مسؤولة، ولا تأخذ بنظر الاعتبار سوى المصالح الآنية والمباشرة للولايات المتحدة، وتحديدا لجهة تقليص حجم الخسائر البشرية والإنفاق العسكري، فالولايات المتحدة، هي صاحبة قرار الحرب على العراق، الذي لم ينبثق من رحم الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي، ومبدأ بوش في "الأحادية" والحروب الاستباقية والوقائية، هو الإطار الإيديولوجي لهذه الحرب، والتحولات التي طرأت على مواقف الإدارة الجمهورية في الولاية الثانية للرئيس الأمريكي، لا تعفي واشنطن من مسؤولياتها الجسيمة حيال العراق والمنطقة.

وأحسب أن "خريطة طرق" للعراق يجب أن تلحظ العناصر والمدخلات التالية:

1. ان العراق يجب أن يبقى موحدا، فتقسيم العراق بمكوناته المعروفة، وامتدادات هذه المكونات وارتباطاتها بدول الجوار العربي والإقليمي للعراق، لا يزيد من احتمالات اندلاع حروب أهلية فيه، بل قد يفضي إلى "البلقنة"...وتقسيم العراق، سيقرع ناقوس الخطر في أكثر من عاصمة عربية وإقليمية مجاورة، سيما تلك التي تعيش تعددية عرقية وطائفية، وسيضعف مطالبات الأقليات بحقوقها، وسيزيد في تعنت الأكثرية وتصلبها، وسيوفر لكثير من الأنظمة المعزولة شعبيا، الكثير من المبررات لإحكام قبضتها البوليسية على شعوبها، بحجة الدفاع عن وحدة البلاد، وضرورات مجابهة خطر انتقال "عدو الانقسام والتقسيم"...وفي المقابل فإن عراقا موحدا، ديمقراطيا وتعدديا، يمكن وحده، أن يقدم نموذجا دافعا وملهما لدول ومجتمعات أخرى على خوض غمار الديمقراطية والتعددية، الفيدرالية واللامركزية.

2. الإسراع في بناء مؤسسات الدولة العراقية، وتحديدا الأمنية والعسكرية والخدمية، وتسريع وتائر إعادة بناء الاقتصاد العراقي، باعتبار ذلك الطريق الأقصر لضبط حالة الفوضى والفلتان الأمني، وعزل تيارات التطرف وتجفيف مواردها البشرية ومحاربة الإرهاب، ومراعاة أن يتم ذلك وفق خطط زمنية كثيفة، وبكثير من الشفافية وأساليب الإملاءات والصفقات التي تثير مخاوف العراقيين حيال مستقبلهم ومصائر ثرواتهم.

3.ويعد بناء مؤسسات الدولة العراقية الجديدة، المدنية والعسكرية، مقدمة لجلاء القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات عن العراق، وفق جدول زمني متفق عليه، حتى يرى العراقيون ضوءا في نهاية النفق، وحتى تتأكد مختلف مكوناته السكانية، بأن الاحتلال ليس أبديا في العراق، وحتى تتسرع وتنشط عمليات نقل السلطة وبناء المؤسسات وإعادة الإعمار، وحتى نضمن مشاركة أوسع للعراقيين في تقرير مستقبلهم ومصيرهم.

4.وإذا كان عراق ما بعد صدام حسين، قد تخطى احتمالات عودة أنماط الحكم الديكتاتوري – الشمولي، فإن الجهود يجب أن تتظافر لمنع سقوطه في براثن شمولية دينية، يمكن أن تستظل أو تتغطى "باغلبية استبدادية"، لا تلحظ التنوع والتعدد الغني في المجتمع العراقي، ويوفر الدستور العراقي الدائم الذي سيجري إعداده والتصويت عليه، فرصة للتأكد من أن حقوق العراقيين كافة، أفرادا وجماعات، يجب أن تكفل وتصان، كما يجب أن تكفل وتصان كذلك، أسس تشكيل السلطات الدستورية وتوزاناتها وصلاحياتها وبصورة تمنع تغول فئة على أخرى، من هنا تجدر الحاجة لتأكيد ضرورة مشاركة العرب السنة في صياغة هذا الدستور، برغم غياب تمثيلهم المناسب في الجمعية الوطنية جراء مقاطعتهم الانتخابات.

5. من هنا تأتي الحاجة لتفعيل ديناميكيات المشاركة في النظام السياسي العراقي وضرورة احتواء العرب السنة في هذه الديناميكات، وهنا يجب أن نلحظ العناصر التالية لعملية الاحتواء المطلوبة:

- أن تغيرا قد طرأ على "المزاج العام" للعرب السنة بعد الانتخابات، وأن شرائح أوسع منهم، بمن فيها هيئة كبار العلماء المسلمين والحزب الإسلامي وشخصيات وطنية وعشائرية وليبرالية وشرائح واسعة من البعثيين القدامى، قد أدركوا حجم الخطأ في مقاطعة الانتخابات، وشرعوا في حوارات تمهيدية مع بعض القوى السياسية العراقية، وثمة مؤشرات تشجع على أن انتخابات نهاية العام، قد تشهد مشاركة أكثر جدية من قبل العرب السنة.

- يجب أن يشرك العرب السنة من خلال قوى وشخصيات ممثلة ونافذة التأثير، بصرف النظر عن توجهاتها السياسية والفكرية، وبصرف النظر عن طبيعة موقفها من الوجود الأمريكي في العراق، ليس لأن الأغلبية العربية السنية في ثلاث محافظات عراقية هي الأنبار والموصول وصلاح الدين تمتلك بموجب القانون المؤقت لإدارة الدولة العراقية "حق الفيتو" على الدستور، بل لأن إقرار الدستور يجب أن يكون توافقيا، وبغالبية ملموسة من قبل العراقيين، ومن دون ضغط أو إكراه، من دون إقصاء أو استثناء.

- يجب التمييز بين فصائل إرهابية تتخذ من الوسط العربي السني، مجالا حيويا لنفوذها وعملياتها، وغالبية أبناء هذه الفئة، يجب تحييد واستمالة بقية القوى العربية السنية في العراق، وعدم أخذها بجريرة فئات متطرفة.

- كما يجب التمييز بين مقاومة عراقية للاحتلال الأمريكي وقوى الإرهاب الأعمى المنظم، فثمة قوى وفئات عراقية، تؤمن بخيار مقاومة الاحتلال، وهي معنية تماما بمستقبل العراق، ويمكن الحوار معها، بل يتوجب الحوار معها، لعزل القوى الأصولية المتطرفة والإرهابية.

- مثل هذه الخطوات، يمكن أن تسهم في تفكيك جبهة المقاطعة التي ضمت الغالبية الساحقة من العرب السنة، ويمكن أن تسهم في عزل تأثيرات القوى المتطرفة والأصولية، ومن دون ذلك، سيترك ربع العراقيين فريسة لهؤلاء، كما حصل خلال العامين الفائتين، حيث لم تنجح القوات الأمريكية دائما في التمييز بين مكونات الطيف السياسي للعرب السنة، وبين مجاميع مختلفة من القوى المسلحة العاملة في أوساطهم.

- وثمة أدوار إقليمية يمكن أن تنهض بها دول عربية وإسلامية عدة، من أجل تشجيع العرب السنة على المشاركة، وفتح حوارات معهم، وتشجيعهم على تشكيل أطرهم السياسية والحزبية، وانتشالهم من براثن سيطرة القوى الأكثر تطرفا، وهنا يمكن لدول مثل الأردن والسعودية ومصر أن يكون لها إسهامها في هذه العملية.

-ويتعين على المجتمع الدولي فتح قنوات اتصال وحوار مع ممثلي العرب السنة، بما في ذلك البعثيين القدامى غير الملطخة أيديهم بدماء العراقيين، وبعض منظمات المقاومة، من خارج سرب الحركات الإصولية الإرهابية، لقد شهدنا اتصالات وقنوات من هذا النوع، ولكنها غالبا ما كانت تفتح لغرض المساعدة في الإفراج عن رهائن، أو تأمين مصلحة مؤقتة وطارئة، يتعين مأسسة هذا الحوار وموضوعاته، باتجاهات تخدم هدف إشراك العرب السنة واحتوائهم في عملية سياسية ديمقراطية، من أجل مستقبل السلم والاستقرار في العراق.