A+ A-
مستقبل الخطاب الإسلامي في ظل الديمقراطية والعولمة
2006-05-28
نعيش اليوم في عالمٍ معولم لا يمكن لأي دولةٍ أو مجموعة دين أو حضارة العيش فيه بمعزلٍ عن الآخرين. كما أن التطوُّر التقني غير المسبوق في جميع أوجه الحياة وتوسُّع المنظمات المتعدِّدة الجنسية وتدخُّل الدول بشكلٍ متزايدٍ في أوجه النشاطات الإجتماعية عبر وسائل القمع المتاحة، وكذلك وجود مطالب متزايدة شعبية لشرعية شعبية وتفعيل دور الفئات الشعبية المسيسَّة... كل هذه الامور تبقى جزءاً من تحديات القرن الواحد والعشرين.

فليس هناك من حدثٍ إلا ويؤثر في بقاعٍ كثيرة، فما يحدث في باكستان أو أفغانستان أو مصر أو الولايات المتحدة ليس حدثاً محلياً بل له تفاعلاته المتشعبة والمتعدِّدة، والحركات الإسلامية الحديثة، والتي تشكل حركاتٍ سياسية واجتماعية معاصرة ومستقبلية ليست محصورةً بهذه الدولة أو تلك أو بهذه البقعة من العالم أو تلك.

إنها في تصاعدٍ متزايد في جميع أنحاء العالم، ومن المتوقَّع أن يؤدي الدين في النظام العالمي الجديد الذي هو في طور الظهور دوراً أساسياً في السياسات الدولية والإقليمية، وهذا سواء تمظهر هذا الدين في حركاتٍ إسلاميةٍ شعبية أو كعنصرٍ ديناميكي من عناصر الحضارات العالمية. لذا نرى اليوم توليفات التمدُّن والعلمنة والعقلانية تترنَّح أمام العولمة وما وراء الحداثة والروحانية. ويشهد فجر القرن الحادي والعشرين سيطرة الرأسمالية المتمركزة والتكنولوجيا المخترقة للحدود، ويشكل كلاهما تهديداً متنامياً لمفهوم الدولة القومية ولإيديولوجيتها القومية. إذ أن روحية الرأسمالية المتقدِّمة والتكنولوجيا المتطوِّرة مناقضةً لروحية الدولة القومية وحقائقها. إلا أن المطالب الشعبية سواء منها المحلية أو العالمية ما زالت تدور حول التمكين السياسي والإجتماعي والإقتصادي، وحول مسائل المشروعية والشرعية وإعادة النظر في دور الدولة وماهيتها.

ومن هنا يمكن النظر إلى ظاهرة الأصولية الإسلامية على أنها نموذج تلك الحركات الشعبية ذات التطلعات الدينية أو الحضارية والمشككة في أخلاقيات التكنولوجيا والرأسمالية والداعية إلى التمكين الشعبي وإلى شرعية مغايرة لشرعية الدولة القومية. لذا، تتطلَّب دراسة الأصولية الإسلامية تحليلها في السياق العالمي ودراسة خطاباتها، سواء المتشدِّدة أو المعتدلة، ضمن سياق تطوُّر الدولة القومية والعولمة الجديدة. إذاً تشكل الحركات الإسلامية وخطاباتها سلسلةً من التطورات الفكرية المتأثرة بما يحصل داخل الدول القومية، وفي النظام العالمي. كما أن تطلعاتها وأهدافها تتخطى الاطر المحلية وتشتمل على ما هو اقليمي وعالمي. إن معظم الأدبيات التي تعالج مسائل الأصولية الإسلامية لا تتمكَّن من دراسة نشاطات الحركات الأصولية ومخاطرها المزعومة من رؤية هذه الأبعاد. لذا يبقى التساؤل حول حقيقة الأصولية والمخاوف منها جزءاً مهماً لا بدَّ للأصولية الإسلامية أن تتعامل معه بدقة. إذ أن مستقبل الخطاب الإسلامي يتعلق إلى حدٍ كبير بقدرته على إزالة صفة الإرهاب عنه وتطوير خطاب تعددي ديمقراطي لا يسعى إلى التوصُّل إلى السلطة عن طريق القوة. إلا أن هناك طرفين لهذه المعادلة، فهناك الدولة التي تسعى إلى الإنقضاض على جميع فئات المجتمع، الإسلامية منها والعلمانية. ولذلك تشكل قدرتها على استيعاب التشكيلات المتعددة للمجتمع صمام أمانٍ وضابط للحركة الإسلامية وخطابها وتشدُّدها أو اعتدالها.
 
إن مستقبل الخطاب الإسلامي يرتبط بشكلٍ وثيق بخطابها السياسي حول الديمقراطية التعددية، وهناك في الحقيقة، تياران فكريان داخل الحركات الإسلامية، فالاول هو التيار المتشدِّد، المعارض للحريات وللعمل السياسي الحر وضد الديمقراطية، أما التيار الثاني فهو معتدل في سلوكه السياسي ومنفتح على الحريات والتعددية والديمقراطية، فالتيار الأول هو انقطاع عن الفكر الثاني الذي بدأ في التأسيس له حسن البنا والاخوان المسلمون في مصر، والذي أخرجته الحكومات المصرية المتعاقبة من حيِّز الوجود الشرعي والقانوني. أدَّى هذا الإنقطاع إلى ظهور الخطاب الإسلامي المتشدِّد الذي أوجد معالمه سيد قطب ومن بعده تلامذته وأتباعه، والذي أوجد المجموعات الإسلامية المتشدِّدة مع المسلمين وغيرهم... فقد كانت ولادة هذا التيار المتشدِّد ردة فعلٍ على الظروف السياسية والإقتصادية والدولية في مصر وعلى سياسات الحكومات المتعاقبة التي قمعت الحريات واستبدَّت بالبلاد، لذا وظفت الأصولية المتشدِّدة مفاهيم إسلامية معارضة لمحاربة المفاهيم العلمانية المسيطرة، فتحوَّلت الشورى إلى مفهوم الإرادة الشعبية ومن ثم تحويلها إلى الإرادة الإلهية.
 
لذا، لا بدَّ من أن يخضع الفرد إلى تلك الإرادة، كما أن حريته تنبع منها، كما يمكن لهذه الإرادة الشعبية أن تؤسس لعقدٍ سياسي مع فردٍ حاكم، إلا أنها لا يمكن أن تسمح بتعدديةٍ سياسية أو اجتماعية أو اختلافاتٍ أساسية حول الإيديولوجيا والفكر والدين. لذا، أصبح قيام الدولة الإسلامية عند المتشدِّدين تنفيذاً للإرادة الإلهية، كما يجعل المتشددون للدولة، عبر مأسستها للشورى وللإجماع، دوراً أساسياً في رسم خيارات الأمة، وعوضاً عنها. فعند الإسلاميين المتشددين تتوصَّل الدولة إلى مشروعيتها الشكلية التي لا تجعلها مسؤولةًَ إلا أمام الله وتطبيقها للشريعة الإسلامية. فعند تطبيق الشريعة تصبح المشروعية مشروعيةً كاملة، إذ لا يمكن المساس بالمشروعية لدى الدولة إلا من خلال معصيتها أو عدم تطبيقها للشريعة. وتتحوَّل الدولة بهذا المعنى إلى مراقبٍ للأخلاق العامة ويصبح التديُّن عملاً عاماً لا عبادةً خاصة يخضع لسلطة الدولة.
من هذا المنطلق، يرفض الأصوليون المتشددون وجود الأحزاب والهيئات ومؤسسات المجتمع المدني ولا يرون فيها أي مشروعية. مثل هذه الآراء وهذا التيار الفكري المتشدِّد ليس لها أي مستقبل، فخطاب المتشددين يزداد عزلةً حتى مع الإسلاميين، وأصبحت أعماله جزءاً من تبريرات الدولة لإرهابها وعنفها ضد مواطنيها.

أما التيار الثاني، والمؤلف من الإسلاميين المعتدلين، فيرى أن غياب المجتمع المدني ومؤسساته والمؤسسات الديمقراطية هو العامل الأول للعنف والإرهاب. إلا أن هذا التيار مغيَّب عن الساحة السياسية في كثيرٍ من البلاد الإسلامية، وحتى عند دعوتها للتعددية ولتحرير العمل السياسي، كما هو الحال في مصر. ولقد حاول هذا التيار الدخول عبر العمل السياسي السلمي إلى المؤسسات الدستورية، إلا أنه ما زال مرفوضاً من قبل الدولة.

وينظر هذا التيار المعتدل إلى مشروعية الدولة عبر منظار القرار الشعبي ويطالب بتحديد السلطات الثلاث للدولة: التشريعية والقضائية والتنفيذية، وفصلها عن بعضها البعض. كما يؤكدون على أهمية العقد السياسي بين الحاكم والمحكوم، كالوسيلة الشرعية للتوصُّل إلى السلطة. فالحكم الإسلامي هو الحكم الشوروي الدستوري التعددي. ويقوم الخطاب السياسي لهذا التيار على حاكمية الله التي لا يمكن فهم خطابها إلا عبر الشوري والإجماع. ويحاول الإسلاميون المعتدلون المقاربة بين الشوري والديمقراطية واستيعاب الفكر الديمقراطي في الفكر الإسلامي. فهذا التيار يحاول التوفيق بين الديمقراطية والحكم الدستوري من جهة، وبين الشورى والشريعة من جهةٍ أخرى.

ويوظف الإسلاميون عموماً مبدأ التوحيد على أنه، من الناحية العملية، مبدأ تمكين الأمة أو استخلافها في الأرض، أو بعبارةٍ أخرى، مبدأ حكم الامة، فبينما يوظف المتشددون هذا المبدأ من أجل السيطرة على الآخرين بإسم توحيد الله، يوظف المعتدلون هذا المبدأ من أجل منع السيطرة على الأمة من قبل سلطاتٍ جائرة ومن أجل تأخير مفهومي الإستقلال والسيادة للأمة. فالخطاب القرآني عندهم هو خطاب مؤسس لولاية الأمة على نفسها وحكمها على أمورها. والولاية هذه لا تكون مشروعةً إلا من خلال اختيار الأمة وانتخابها لحكامها، فالأمة هي الجهة الوحيدة المخولة للسلطة الشرعية. وهكذا فإن مبدأ التوحيد عند الإسلاميين هو خطاب سياسي يقوم بنظيم السلطات بين الأمة وحكامها وهو يوظف في مواجهة الحاكمية الفردية للسلة المسيطرة على مقدرات الأمة وشعوبها. فالبحث عن التوحيد، في صورته الإسلامية، هو بحث عن ولاية الأمة عبر خطابٍ ديني، وخاصةً بسبب الإنهيارات العميقة في الخطابات القومية والشيوعية والإشتراكية والليبرالية في أغلب بقاع العالم الإسلامي.

من هنا تأتي أهمية رفض الإسلاميين للسلطة التي أناطتها المؤسسات الإسلامية بمفهوم التاريخ وللتاريخ نفسه. إذ ان الإسلاميين يعتبرون أن هذا التاريخ ممثل في البنى الدينية التقليدية التي تخضع لمبررات تاريخية للخضوع والإنصياع لسلطة الحاكم المستبد على أساس أن الضرورات تبيح المحظورات، لا الفقيه فقط بل السياسة وغيرها، فتلك المؤسسات الدينية والسياسية التقليدية غير قادرة اليوم على تمثيل فئات المجتمع المختلفة، فالبحث عن الإحياء الإسلامي، عبر فصل الإسلام عن تاريخه وعبر تحديث خطاباته، هو بحث عن التحرُّر من السلطات التي قامت لعدة عقود وحتى قرون من منع التحديث الحقيقي والجوهري في حياة الناس. وعليه فعلى المسلمين اليوم، وحسب الإسلاميين تحرير طبيعتهم الإنسانية من أغلال الماضي والبدء في صحوةٍ دينيةٍ وروحية وفكرية وسياسية واجتماعية، فالبحث عن التحرُّر والصحوة لا يتعلق فقط بالامور الدينية بل يتعداها إلى سياسي واجتماعي وتحديد البشرية من الماضي وتمكنها من الفعل في الحاضر والتخطيط للمستقبل.

ويبدو هذا جلياً من خلال قراءة معظم المنظرين الإسلاميين للنصوص القرآنية والنبوية، فهم يعتبرون أن فهم تلك النصوص لا يرتبط فقط بتاريخ نزولها أو أسبابها، بل لا بدَّ من اكتشاف معانيها الجديدة في ضوء الواقع الحديث وربطها بمسألة المشروعية والحداثة والدولة الإسلامية على أسسٍ حديثة وجديدة، إن عملية إعادة اكتشاف المعاني هذه، عند الإسلاميين، ليست بحد ذاتها نهائية أو مطلقة بل هي أيضاً مقيدة في سياقاتها والفعل البشري. وعملية إعادة الإكتشاف هذه هي إذاً بحث عن الشرعية الحديثة، وهذا من خلال محاولتها إعادة النظر في أصول المشروعية ومكوناتها، مما يقضي بالتالي إلى إعادة البحث في أصول المعرفة ونظرياتها في قراءاتٍ جديدة. وهكذا فبينما يحاول الإسلاميون التشكيك في النظريات المعرفية الغربية الحديثة، فإنهم، وفي الوقت نفسه، يأخذون منها أسساً معرفية من أجل تفكيك البنى الفكرية التاريخية الإسلامية ومن ثم إعادة تركيبها في سياقٍ حديث. وعلى المستوى المعرفة توازي الأصولية الإسلامية في علاقاتها مع الفكر الإسلامي التاريخي وبناها التقليدية وتأثيرها عليه على المدى الطويل البروتستانية مع الكنيسة الكاثوليكية. فالأصولية، كما هو حال البروتستانية، تجعل من الفرد الواحد مصدر التأويل الديني، كما يرفضون إعطاء أي مؤسسة سلطة دينية معينة، فالإسلاميون يرفضون بتاتاً، ونظرياً على الأقل، إعطاء أي مزايا أو حقوق حصرية للمؤسسات الدينية، إذ ان السلطة وحتى التأويلية هي للمسلمين عموماً وافراداً.

من ناحيةٍ أخرى، فإن البحث عن الحداثة يقوم به إسلاميون تحت عباءة البحث عن الأصالة، إذ توظف الأصالة من أجل استحضار النظريات الغربية الحديثة وإحلالها محل التقاليد الإسلامية المعرفية، إذاً فالبحث عن الحداثة والأصالة هو أيضاً أداة تمكين دون الخضوع للحداثة الغربية التي ترتبط في فكر الإسلاميين مع الإستعمار والامبريالية ومن أجل تأصيل المفاهيم الجديدة في إطارٍ إسلامي دون الخضوع للتفسيرات التقليدية الإسلامية. "فالحداثة المؤسلمة" تسمح للإسلاميين تبني التكنولوجيا والعلوم والمؤسسات الغربية التي تعزز قوة المسلمين. أما الأصالة "التحديثية" فهي تسمح للإسلاميين بالنأي عن ما يعتبرونه قوى محلية وعالمية ظالمة أو غير شرعية أو متسلطة. وهكذا فإن الهوية الأصولية الإسلامية تستمد من نصٍ راسخ (قرآني) يوظف للإستعلاء الأخلاقي والمعنوي ومن حداثةٍ مؤسلمة تزودهم بوسائل استكمال جمع القوة المادية ومن أصالةٍ تحديثية تميِّز الأمة الإسلامية عن باقي الأمم. إلا أن مثل هذه الهوية تنبع حقيقةً من عملية ربط القراءات أو الخطابات الإسلامية الدينية بسياقاتها التاريخية، وبالتالي رفض قطعية دلالتها جميع أجيال المسلمين. وتحاول الأصولية وضع الخطاب القرآني مكان الخطاب التاريخي وبالتالي استخلاص مشروعيتها السياسية من النص القرآني، والذي منه تستمد القدرة على الفعل أو الممانعة.

على أن النظرية التاريخية للفكر التقليدي واللاتاريخية للنصوص القرآنية هي أساس قيام ايديولوجيا تحريرية تحرِّر الفرد والمجتمع من التراكمات التاريخية التي تشكل المفاصل الفكرية للبنية الذهنية السلطوية ولمؤسساتها. إلا أن القراءة الحقة، ولولا ايمان الإسلاميين بالنص وحقيقته، لتحوَّل فكرهم إلى جزءٍ من تيارٍ ما وراء الحداثة، إذ انهم لا يرون أن الإنسان قادر على التوصُّل إلى معنى نهائي لأي حقيقة، إذ أن النص يحتمل التأويل وإعادة التأويل إلى ما لا نهاية. ومن هنا يرى الإسلاميون أن القراءات الإسلامية التقليدية وعلومها وكذلك الغربية ليس لها أي قيمة جوهرية بحد ذاتها. إن إصرار الإسلاميين على أسلمة كل مبدأ سياسي واجتماعي هو إذاً بحث عن الهوية وعن المشروعية السياسية والإجتماعية. ولذلك، يمكن اعتبار رفض الأصولية لعلم الكلام وللفلسفة وللصوفية وللفقه جزءاً من رفضها للتسلط الفكري الذي يساهم في التأسيس لإرجاع المشروعية للأمة في جميع ميادين الحياة، ومن هنا يرى الإسلاميون المعتدلون أن البحث عن الديمقراطية عبر إعادة تفسير معاني الشورى والإجماع هو بحث لإيجاد سلطاتٍ سياسية لها حد ما من التمثيل الشعبي. ومع أنه لم ينضج الوقت تماماً من أجل تقييم أثر الفكر الأصولي في الفكر التقليدي أو انقطاعه عنه، إلا أنه من الواضح أن العديد من المفكرين المسلمين يعملون على إعادة النظر في النماذج السياسية وتقاليدها ومؤسساتها ومحاولة التوصُّل إلى فكرٍ إسلامي رحب ومتجدِّد. من هذا المنطلق يمكن القول أن البحث عن الدولة الإسلامية هو نوع من الهروب من الدولة التسلطية أو البحث عن الدولة الممثلة للشعب. وبينما يرى الإسلاميون المعتدلون عموماً الدولة الإسلامية على أنها دولة ديمقراطية، وعند البعض، ليبرالية ديمقراطية، إلا أن مشروعية الدولة يجب أن لا تخالف النصوص القرآنية. ان مرجعية النصوص الدينية تحافظ عند المعتدلين على التوازن بين حكم الحاكم وحرية حركة المجتمع وفئاته، وتفصل بينهما عند الإختلاف. وبذلك يحول المعتدلون الإنتخابات، مثلاً إلى مسائل موازية للشورى أو الإجماع، وبالتالي إلى واجباتٍ دينية، كما انها تحافظ على تمثيل مصالح الأمة ورفع الظلم والإستبداد والإستغلال.

ومن هنا يتوصَّل الإسلاميون إلى موازنة الاخلاق العامة الصحيحة النابعة من سيطرة المجتمع على الساحة السياسية ومن العدالة الإجتماعية والسياسية، مع السلوك السياسي المستقيم والإيمان الحق. كما يوازي المعتدلون بين السلوك السياسي الضال وما بين الكفر. لهذا، فإن النقاش الدائر بين الإسلاميين وغيرهم حول الإيمان والكفر، والأسلمة والعلمنة، وكذلك التأصيل والتهميش هي في حقيقة الأمر نقاشات سياسية حول العدالة والظلم، وكذلك تحقيق الذات أو تهميشها في الدائرة السياسية وبهذا ينظر الإسلاميون إلى فكرهم على أنه البديل عن الشيوعية والإشتراكية والليبرالية الرأسمالية وايديولوجياتٍ أخرى. وما يميِّز الإيديولوجية الإسلامية عن غيرها هي تمحوُّرها حول الأخلاق الإيجابية الفردية والإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية. فهم ينظرون إلى المؤسسات الحاكمة في العالم والفاعلة في دولهم على أنها دول فاسدة وغير إنسانية ومستغلة لشعوب العالم. أما أخلاقيات الإسلام فهي سلطة تمكين عالمية تحفظ للمسلمين دورهم في العالم وتشرعن دور المسلمين في السياسات العالمية.

ومن هنا يرى الإسلاميون أنه بينما يزود الغرب البشرية بالتقدُّم المادي من خلال التطوُّر التكنولوجي فإن الإسلام يزودها بالعامل الإنساني، الأخلاق، مما يساهم في نشر التقدُّم المادي بصورةٍ أخلاقية في العالم كله. إذاً ان دمج التطوُّر المادي مع الاخلاق مؤسس عند الإسلاميين لإمكانية قيام نظامٍ عالمي متقدِّم مادياً وأخلاقياً عوضاً عن سيطرة نظامٍ عالمي رأسمالي لا أخلاقي ولا إنساني، فالعامل الأخلاقي سيساهم في إعادة توزيع الثروات بشكلٍ عادل بين جميع الامم، بما فيها الامم الفقيرة. وهكذا، وبينما يتقيَّد الإسلاميون المعتدلون بنظام الإنتاج الرأسمالي، إلا أنهم يعارضون نظام التوزيع الرأسمالي، أو اقتصادها السياسي، لأنه يقوم على الإستغلال والظلم. إن عولمة نظام التوزيع الرأسمالي عند الإسلاميين عبر عولمة التقنية يؤسس لعالمٍ مقسَّم تسوده النزعات ولنبذ الشعوب الفقيرة وإخراجها من التاريخ العالمي. ويرى الإسلاميون أن كل من التكنولوجيا الرأسمالية المعولمة بحاجةٍ إلى أخلاقٍ عالمية يزودها به الدين الإسلامي العالمي. إلا أن الدين المرفوض من العولمة التقنية والرأسمالية، فإنه سيتحوَّل إلى أحد أسيات عدم الإستقرار في العالم.
 
 
-ورقة عمل قدمت في مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني " الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في الفترة مابين 27-29 مايو 2006 - عمان - الاردن