A+ A-
مستقبل نظرية إقتصاد السوق الرأسمالي
2009-07-25

المقدمة

بالنسبة للرأسمالية، هناك عدد من الملاحظات العامة المهمة (أو حقائق حسب الرأي الشخصي) والتي تم أنكارها من قبل البعض لبعض الوقت، سواء لسبب معين أو لغير سبب.أولاً ومنذ الأيام الأولى، كانت الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي ، محل انتقاد داتمي بسبب تناقضاتها وانعدام المساواة فيها، ثانياً ، وهذه "الصفات" لا زالت موجودة رغم كل الجهود التي تم بذلها خلال ما يسمى بعملية تطوير الرأسمالية، ثالثاً، لا أحد يستطيع الأدعاء بإن الكثير من بلدان العالم (عدا النصف الغربي) اختارت الرأسمالية كنظام لها، بل أن أحداث التاريخ أوضحت لنا أنه تم فرض الرأسمالية (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) على كثير من الدول، ولم يتم اختيارها بصورة حرة، وأخيراً فأن التطبيق العملي للرأسمالية أختلف تماماً عن النظرية ذاتها.

أي نظرة عامة لتاريخ الغرب، فضلاً عن دراسة تاريخ دول أخرى، كافية لتوضح لنا عدم توقف البحث عن نظام ايديولوجي آخر بديل للرأسمالية عبر العصور، وورغم الانتصار النسبي للرأسمالية على الاشتراكية نظراً لتعارض المنهجين وتضاربهما لفترة معينة من الزمن، ثم أنهيار الاشتراكية ودحرها نهائياً في 1989، ومحاولة البعض من المتحمسين المتطرفين للراسمالية تصوير ذلك الانتصار بأنه (نهاية التاريخ)، ولكن ومع الأسف لجميعنا، ولاسيما لأولئك المتحمسين المتطرفين، وبعد سنوات قليلة من انهيار الاشتراكية، بدأ الاقتصاد العالمي الرأسمالي بالانحدار، وانفجرت الفقاعة، سواء مع أو بدون حدوث ركود اقتصادي.

لا أحد يستطيع أن يبرر أو يرفض العواقب السلبية الاقتصادية الاجتماعية للأزمة الاقتصادية العالمية، بل أن هذه الأزمة تؤكد دون شك بإن تناقضات الرأسماليين وانعدام المساواة بينهم هي من أدت لبروز الاشتراكية، وربما ستؤدي إلى بروز نظام جديد يتحدى الرأسمالية، وما دامت "صفات الرأسمالية" لا زالت موجودة، بل أن هناك دعوة جادة تلاقي الترحيب من قبل الكثير من أجل وضع أسس لنظام اقتصادي اجتماعي جديد.

بالرغم من كل هذا، فمن السابق لأوانه توقع بروز نظام جديد بطبيعة أو نوعية جديدة، فيما لا تزال الأزمة العالمية مستمرة، كما لن تحدث عمليات تغيير على المستوى الدولي بين ليلة وضحاها، ,وان كان هذا لن يمنع أو يضع حداً لمناقشة هذا الموضوع بحد ذاته كجزء من جهد لرسم صورة المستقبل، ومن هنا فإن الغرض من هذا البحث هو التعليق على المصير المحتمل للرأسمالية في ضوء الأزمة العالمية الحالية.

ما هي الرأسمالية؟
من المؤسف حقاً أن معظم الاشخاص، سواء كانوا مثقفين جداً أم لا، سيدخلون أنفسهم في نقاش حول بعض المصطلحات دون أن يحددوا الأرض الواقفين عليها، وليس هناك مصطلح تعرض للنقاش مؤخراً مثل مصطلح "الراسمالية"، علماً أنه إذا أاسنفهمت عن معناه، فأنك ستنتهي بعدم الحصول على جواب مقنع.يجب بناء الرأسمالية كنظام اجتماعي- اقتصادي على صفات محددة معينة، اعتماداً على المثل الفرنسي الداعي لحرية التجارة من كل القيود المفروضة عليها من قبل الحكومات "دعنا نفعل، دعنا نمر"، فالحقيقة أنه لا توجد رأسمالية بمعنى الكلمة في أي مكان، لأنها كانت معرضة لتغييرات مستمرة طوال الوقت وعبر الزمان والمكان، فتاريخياً، كان من الضروري أحداث الكثير من التغييرات الأساسية في النظام الرأسمالي وقدر الأمكان من أجل تخفيف آثار انعدام المساواة في النظام، لهذا سأل سين Sen (2009) هل الرأسمالية كمصطلح لا تزال تستخدم اليوم؟ رغم كونها لا تزال موجودة كنموذج، ونموذج مرغوب بشدة حتى بعد سقوط الاشتراكية.

تساءل سين في بحثه حول الصفات المحددة التي تجعل من نظام معين، قديم أو جديد، نظام رأسمالي دون شك، ويحدد احتياجات الرأسمالية من خلال: استخدام آلية السوق في الصفقات الاقتصادية، ثم الملكية الخاصة للموارد الاقتصادية، والاعتماد على باعث الربح والجوائز الشخصية، وعندما يتم التفكير بكل هذه الاحتياجات، فأن سين يسأل هل أن الانظمة الاقتصادية الحالية في الغرب هي أنظمة رأسمالية حقيقية (Sen, 2009).

يحاول جابارا Chapra (1995) أعطاء صورة متكاملة وأكثر وضوحاً للنظام الرأسمالي، فالبنسبة له، فالرأسمالية هي نظام 1) يدعو لتوسيع الثروة إلى أقصى مدى، ويريد الوصول إلى رضاء الكائن البشري، 2) تحتاج المبادرة البشرية إلى حرية غير محدودة من أجل السعي إلى المصلحة الذاتية المالية والمادية، 3) تستطيع المبادرة الفردية من خلال سوق تنافسية التأكيد على توفير جميع المواد الأولية النادرة بصورة كفوءة وقياسية، 4) لا يمكن أيجاد أي دور مهم للحكومات سواء من ناحية توفير الكفاءات أو توفير الموارد، 5) ستؤدي عملية متابعة أرضاء النفس الذاتية والسعي نحو مصلحتها وفائدتها وبصورة أوتوماتيكية وغير أرادية إلى فائدة المجتمع.

أنه من المناسب الآن التأكيد بإن السوق الرأسمالي ليس مجرد سوق لصنع الأسعار لأنه في الواقع مؤسسة اقتصادية كما هو معروف، كما ُيعرف السوق الرأسمالي بأنه (سوق صانع للأسعار المنظمة ذاتياً)، وأنه ذلك النوع من السوق الذي تطور من الرأسمالية الليبرالية وهو ملك لها فقط (Oran, 1998)، وحسب كلمات بولاني Polanyi فإن السوق الرأسمالي هو "أنه ليس مجرد نوع من التجارة ، بل أنه نظام سوق متكامل يشمل مجتمعه" (Polanyi, 1977, p.124).

بعد قول كل ذلك، فلا بد من القول بإن عد الرأسمالية كنظام اجتماعي-اقتصادي وفهمها على هذا الأساس جاء بدون أسس منطقية على الأطلاق، وربما تم بناءه على خلفية فكرية معينة، والتي سيقوم هذا البحث بإلقاء بعض الضوء عليها.

خلفية تاريخية
يبدو أن هناك أتفاق بين علماء الاجتماع بأن الهدف الأساس الذي تم تحديده من قبل أنظمة المجتمع الاقتصادية خلال التاريخ البشري هو قدرة الجنس البشري على إنجاز بعض التقدم، ولكن ماهية التقدم وكميته وأسلوب انجازه كانت دائماً موضوع جدال، فعلى سبيل المثال، فإن الهدف الاجتماعي الرئيس لحركة الأنكلوسكسون المستنيرة هو تخفيض نسبة البؤس وزيادة نسبة السعادة والرفاهية Layard, 2009)).

لقد جرب العالم خلال القرون الثلاثة الماضية عدة أنظمة اجتماعية اقتصادية غربية مع متغيراتها والتي تشمل الرأسمالية والاشتراكية ودولة الرفاهية، وعلى الرغم من تحقق انجازات في عدة مجالات محددة، فأن جميع الأنظمة فشلت في تقديم حلول مقبولة لمشاكل العالم الاقتصادية الرئيسة، ورغم سقوط الاشتراكية في هذا السباق، وبقاء الآخرين فيه، فهذا لا يعني بالضرورة استحقاقهم البقاء، ولكنهم بقوا لعدم وجود بدائل لهم، ومن جهة أخرى، تحتاج أي مناقشة تحليلية علمية حول مستقبل الرأسمالية أولاً ضرورة فهم التطور التاريخي الغربي للعلوم الاجتماعية، ومن ضمنها الاقتصاد، وفهم الأسس النظرية لذلك النظام، وبعد ذلك، ولكي يكون الفرد موضوعياً ومنعاً للجدل، فأن الفرد عليه أن يبتعد عن أتخاذ أحد الموقفين المتطرفين الأعتياديين للموضوع، فالرأسمالية ليست خالدة إلى الأبد وليست محكومة بالانهيار المحتوم أيضاً.

لاشك أن تطور العلوم الاجتماعية الغربية تأثر بشدة بما يسمى (الحركة المستنيرة)، واختصاراً، فحسب قول جابارا (Chapra, 1995) "تم وضع ثقة كبيرة في قوة التبرير بحد ذاته من أجل حقائق ميتافيزيقية مطلقة"، وجاء هذا في الواقع كنتيجة للطبيعة العلمانية للحركة التي رفضت بصورة مطلقة وجود معرفة في "قوى ما وراء الطبيعة (الله)"، ولازالت بعض النتائج الأساسية لهذا "الرفض" توجد في دراسات العلوم الاجتماعية بصورة عامة، وفي الاقتصاد بصورة خاصة.

لقد أصبح واضحاً بأن العالم، الطبيعي والاجتماعي، يدار بواسطة قوانين طبيعية فقط لا تقبل التدخل، ولهذا يتم التعامل مع الظاهرة الاجتماعية بأنها ظاهرة طبيعية، أعني بذلك، أنها ُتعامل كقضية مادية معرضة للملاحظة والأثبات التجريبي، وكنتيجة لذلك، أصبحت العلوم الاجتماعية معرضة بصورة أكثر للمادية والتأكيد، بل وأصبح الرضاء المادي هو الأساس، إن لم يكن هو الهدف الذي يتم السعي خلفه، حيث تم تبني جميع القيم حسب رأي المذهب النفعي، واعتماداً على ذلك، فإن نشر السعادة في المجتمع (بدلاً من الحق والصواب و العدالة) وتقليص البؤس (بدلاً من الخطأ والشر وانعدام العدالة) أصبح هو الهدف الأسمى في ظل حركة الأنكلو سكسون المستنيرة، ومن جهة أخرى، فبما أن الحقائق العالمية تبني وجودها اعتماداً على قواها الذاتية وبصورة مستقلة عن أي تأثير بشري، فأن مصير البشر سيتم تحديده فقط اعتماداً على قوى خارج نطاق السيطرة البشرية .

منذ أيام الفيزيوقراط الذين ظهروا في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر وزعموا ان "القيمة مستمدة من الطبيعة" وإلى يومنا الحالي، والنظرية الاقتصادية قبلت وجهة النظر التي تقول، لأسباب موضوعية، بإن الشؤون الاقتصادية تعمل وفق القوانين الطبيعية (التي تمت تسميتها بعد ذلك قوانين الاقتصاد) والتي تتحكم في تصرفات الوكلاء الاقتصاديين العقلانية من خلال مؤسسات اجتماعية محايدة وغير متحيزة، مع وضع السوق فوق الجميع، ولهذا السبب فإن السياسة الاقتصادية المختارة ستكون معتمدة على عدم التدخل الحكومي في شؤون السوق (دعنا نفعل، دعنا نمر)، مما يعني أن السياسة ستكون لا سياسة، ولهذا فهناك أيمان بإن أفعال الوكيل الاقتصادي العقلاني، الاقتصادي المحلي، وأعني بذلك تصرفات الشخص الذي يقوم بإدارة السوق والمقاد فقط بمصالحه الذاتية ضمن آلية السوق سيقوم بتحقيق النتائج الاجتماعية المطلوبة، ويؤمن سمث Smith بأنه إذا حاول كل فرد العمل لتحقيق مصالحه/أو مصالحها الذاتية، فإن اليد الخفية لقوى السوق ستكون موثوقة لتعزز بصورة تلقائية أوتوماتيكية وغير مقصودة مصالح المجتمع ككل.

من المهم أن نذكر هنا إن أراء سمث (بغض النظر عن قيمتها) قد ابعدت الأهتمام عن النية الأخلاقية والألتزامات الاجتماعية لوكلاء السوق وأكدت على النتيجة النهائية الاجتماعية الناتجة من نياتهم، بل أن اراءه كانت رسالة واضحة لوكلاء السوق المهتمين بمصلحتهم الذاتية بإتباع مصالحهم بكل الوسائل، لأن النتجة النهائية لأفعالهم ستكون مقبولة اجتماعياً، وعندما يتم وضع كل هذه الأفكار معاً، فأننا نرى تقليل عدد كبير من المباديء بشكل واسع بدءً بالألتزام الأخلاقي مروراً بالعدالة الاجتماعية وانتهاءً بتوزيع الدخل والثروة.

أن ربط القدسية بالمصلحة الذاتية وبأفكار أخرى، منحت الحرية للأقتصاد ثم جعلت الاقتصاديون أحراراً من أي أحساس بالألتزام الاجتماعي، وهذا دفعهم للمنافسة غير المقيدة في سوق حرة متبعين نظرية دارون في (البقاء للأصلح) لغرض الحصول على أمان اجتماعي مهما تطلب الأمر (Chapra, 1995).

والآن وبعد أعطاء بعض الضوء على بعض ظروف نشأة النظام الاجتماعي الاقتصادي الرأسمالي، فأن المناقشة ستدور حول مستقبل ذلك النظام.مستقبل الرأسماليةكما تم ذكره سابقاً، لم يتوقف السعي مطلقاً لأيجاد نظام اجتماعي اقتصادي بديل، بل أكثر من ذلك، فأنه تم طرح أسئلة حول مستقبل الرأسمالية منذ زمن بعيد ولا زال النقاش مستمراً حولها.

وعندما تم طرح سؤال "هل تستطيع الرأسمالية البقاء؟" في بداية الثمانينات، أجاب شيتوفسكي Scitovsky (1980) "لقد تم طرح هذا السؤال قبل عقد من الزمن بواسطة جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter وأجاب على ذلك بالنفي". ليست غاية هذا البحث التنقيب تاريخياً وتتبع هذا السؤال، ولكن يكفي أن نعرف أن اقتصاديين عظيميين (ممن ذكرناهم) تساءلوا قبل فترة طويلة من الزمن حول امكانية بقاء الرأسمالية وأكدوا شكوكهم حول ذلك، وقبل فترة طويلة جداً من انفجار الفقاعة التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.

في الوقت الحاضر، أبدى العديد من علماء الأجتماع والسياسيين القلق حول الموضوع ذاته عبر تقديم أسئلة مختلفة مثل: هل الرأسمالية متوفية؟ كيف تبدو الرأسمالية الحديثة؟ ما مستقبل الرأسمالية؟ وغير ذلك من الأسئلة.يوضح مجرد التفكير في مصير الرأسمالية بأن إداء النظام الرأسمالي الحالي غير مرضي وغير مقبول، على أقل تقدير، ولابد من حدوث بعض التغيير الأجتماعي، ويبقى نوع التغيير أو ماهيته أو حجمه محل نقاش.

هنا لا بد من التوقف والقول أن البحث عن نظام جديد بديل لايعني بالضرورة البحث عن نظام جديد مختلف تماماً من الناحية الاجتماعية التنظيمية، إذ سيؤدي بروز نظام جديد مختلف إلى خطوات كارثية وتغيرات اجتماعية عميقة في أسس المجتمع، ولا الغرب (ولا العالم بأسره) مستعد لذلك، فضلاً عن عدم الاستعداد لمواجهة مخاطر كارثية، ولهذا فالواقع أن جميع النداءات بإيجاد بدائل، تتلخص في نداء يدعو إلى (أصلاح النظام الرأسمالي الحالي).

خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، تخلى أقطاب المجتمعات الرأسمالية والسياسيون ورجال الأعمال والأقتصاديون وغيرهم عن أي محاولة لأرجاع أسباب الأزمة إلى "اليد الخفية" التي تدير قوى السوق، وسعوا إلى أنقاذ النظام الرأسمالي بكل الطرق (Baiman, 2000)، والحقيقة، أنه خلال الأزمة، فأن أهم مطلب في المدى القصير كان أيقاف تحلل النظام بأي طريقة كانت، ثم إعادة النظام إلى طريقه الطبيعي على قدر الإمكان (رغم غموض هذه العبارة)

عند النظر في تدابير إدارة الأزمة التي اعتمدتها الحكومات الغربية الرئيسية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها ، فأنه من الواضح تماما أن نظرية السوق الرأسمالي لم تستطع إبداء أي مساعدة، وعملية تأميم (أو ما يسمى إنقاذ!) الشركات المالية الفاشلة وغيرها لم تكن وصفة طبية رأسمالية بل هو وصفة طبية اشتراكية، وفي الواقع، لم يستطع أشد المؤيدين لأقتصاد السوق الرأسمالي (ومن ضمنهم المحافظين الاقتصاديين) من التجرأ على التلميح أو اقتراح ترك السوق تأخذ مجراها الكامل، لأن قيام الحكومات الغربية بترك الشركات المتعثرة والسماح لها بالأنهيار ، فأن هذا سيؤدي إلى انهيار متتابع وسلسلة من الاخفاقات، وستتساقط المؤسسات المالية كقطع الدومينو، مما يؤدي إلى ذوبان كامل للنظام وعندئذ لا يستطيع أحد التنبؤ بحجم النتيجة النهائية التي ستكون كارثية على كل من الغرب والعالم.

أدى اتخاذ تدابير من هذا القبيل إلى ألقاء الشك حول مدى فائدة النظرية الاقتصادية للسوق الرأسمالي، ففي نهاية المطاف، وضمن إطارها النظري حدثت الأزمة العالمية الحالية ونشأت وتطورت، وعندما حدثت الأزمة الكارثية، لم يستطع النظام الرأسمالي قادرا على توفير الحلول، ورغم أن كل الحكومات والقوى الرأسمالية تعمل لأيجاد حل على المدى القصير 'خطط الانعاش' ، فلا بد من عمل شيء ما على المدى الطويل، لهذا يشدد شين وآخرون على الحاجة إلى أفكار المدى الطويل حول تغيير تنظيم المجتمع (Sen, 2009).

يبدو أن المشكلة الرئيسية الحالية هي قابلة للنقاش حول هذا النوع من التمييز بين الأفكار أو الإصلاحات التي ينبغي إدخالها في النظام الحالي للتغلب على عيوبه، ورغم الحلول الاشتراكية، فالنظام لا زال يوصف أنه نظام راسمالي، ويدل عنوان الندوة التي عقدت في باريس ، في شهر يناير من هذا العام وهو "العالم الجديد ، ورأسمالية جديدة؟" على ان مستقبل الرأسمالية هو بشكل واضح قيد المناقشة، ومع ذلك، فإن جميع ما نتج من هذه الندوة، يتفق مع وجهة نظر الباحث المذكورة أعلاه، فما يتم البحث عنه ليس نظام اجتماعي اقتصادي جديد، وإنما إصلاح النظام الحالي، وينادي جميع السياسيون في أرفع المناصب بما فيهم رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الوزراء البريطاني ، والمستشارة الألمانية ، والأكاديميون وغيرهم ممن شاركوا في مناقشات الندوة بمبدأ الأصلاح، وقد يكون من المفيد للقارئ أن يركز على المواضيع الأساسية التي نوقشت في تلك الندوة. المهمة (ندوة باريس).

في البداية ، ومن أجل فهم الأزمة العالمية، تم تقديم أربع طرق لتفسير الأزمة خلال الندوة ، وهي : 1) أزمة مصرفية ، 2) أزمة تمويل مالي عالمية ، 3) أزمة في معدل النمو أو أزمة في التنظيم ، و 4) امتدادا للأزمة اليابانية الممتدة جذورها في الشيخوخة الديموغرافية.

ليس من المستغرب أن نجد أن كامل التحليل يتركز فقط على المسائل التقنية وبهمل المسائل السلوكية، ولذلك ، يتم تفسير أسباب الأزمة الحالية بكونها نتيجة القصور التقني في النظام المالي ، أو ربما في جزء منه فقط، وبالتالي، فإن مناقشة الرأسمالية كنظام سييبدو كنتاج ثانوي بدلا من أن تكون المناقشة القضية الأساسية المركزية، بل أن الندوة أكدت على أن الأزمات المالية لا تؤدي إلى تغير في العصر، وعلاوة على ذلك ، فعندما تم ذكر (داخل الندوة) بوجود علاقة واضحة بين نشوء فترات المضاربة العالية نسبياً وبين الانخفاض الواضح في معايير السلوك بما في ذلك زيادة عمليات الاحتيال والنصب، حاول الكثير من المشاركين تبرير ذلك بكونه "موقف طبيعي، وله ما يبرره"، بل أن بعض المشاركين من قال إن "يبين التحليل التاريخي أنه على الرغم من الأزمات المتكررة، فأن الرأسمالية لم تتوقف أبدا على تحويل نفسها من خلال دمج موجات متتالية من الابتكار لإعادة اختراع الاتفاقيات الجديدة" (Center for Strategic analysis, p. 15, 2009).

تم أصدار وثيقة عن مركز التحليل الاستراتيجي (2009) تدعو لبعض التحولات العميقة للرأسمالية، على الرغم من أن كيفية هذه التحولات هو موضع خلاف عميق، ربما تشمل هذه التحولات النظام المالي من خلال جعل الرأسمالية أكثر عدالة، وإصلاح دور ما يسمى بـ 'الحكومة الاجتماعية' (من خلال إعادة النظر في مسألة أنعدام عدم المساواة ، ودور الحكومة فيما يتعلق بإعادة التوزيع، والتأمين من المخاطر ،و تنمية رأس المال البشري والبيئي ، والتعليم ، والصحة ، والثقافة ، والترفيه).

أنه من المحتم القول إن الأسباب التقنية لأية أزمة ليست بالضرورة هي الأسباب الحقيقية لتلك الأزمة، ولذلك ، لإان هذا التحليل وغيره من التحليلات التقنية ذات الصلة ليست مهمة إلا على المدى القصير ولكنها غير مؤهلة على المدى الطويل، وتكون التحليلات التقنية مفيدة لحين تحديد بعض الخطط للتعامل مع الأزمة الراهنة من حيث امتصاص الصدمات والحفاظ على الوضع الراهن وأيقاف مزيد من التدهور، ولاعادة تشكيل المستقبل لأي نظام اجتماعي اقتصادي لتجنب الوقوع في أزمات مماثلة ، على نحو أعمق وغير التحليل التقني أمر لا بد منه.

تبين الحسابات التاريخية أن الرأسمالية قد مرت بأزمات عدة منذ القرن الثامن عشر، وأن كان الكساد الكبير في عام 1929 ، المشار إليه في كثير من الأحيان خلال الأزمة الحالية أكثرها تأثيراً، وهذا يفسر لماذا يجد أي مراقب بسهولة بأان معظم الدراسات حول هذه الأزمات، إن لم يكن حول جميعها ، كانت دراسات تقنية، بل لم يكن هناك فرد لديه الشجاعة الكافية للغوص في اعماق أسباب هذه الأزمات، والتي استمرت بالمجيء من وقت لآخر. من بين العديد من المقالات التي تناقش مستقبل الرأسمالية، هناك بحث واحد يقف بمفرده متميزاً، فعلى العكس من بقية المحللين، يضع لايارد (2009) إصبعه على الأسباب الحقيقية للأزمة من خلال خدشه أساس النظام الرأسمالي، فهو يرفض فكرة ان خلق الثروة بكونه الهدف النهائي من التقدم، ويحث أهل الغرب لوقف 'عبادة' المال، بل أنه علاوة على ذلك ، انتقد بشدة المجتمع الغربي لكونه 'فردياً للغاية' ، ودافعه الوحيد هو المصلحة الخاصة ، 'مع الكثير من التنافس' بدون 'أهداف مشتركة كافية' ، علاوة على كون 'المجتمع قائم على المنافسة الداروينية'، ولهذا يدعو لايارد يدعو إلى إنشاء مجتمع أكثر إنسانية، مجتمع واحد معتمد على أسس القيم الجماعية بدلا من تركيزه على الحالات الفردية.

الاستنتاجات
كانت الرأسمالية، كنظام اجتماعي اقتصادي، منذ الأيام الأولى محل أنتقاد كنتيجة لتناقضاتها وأنعدام المساواة فيها، ودون التطرق لجميع المحاولات التي حاولت إزالة هذه التناقضات والتي لم تستطع على المدى البعيد فعل شيء، بقى النظام الرأسمالي كما هو، والأدهى، وعكس ما يبدو، فأن الراسمالية استطاعت فرض نفسها على كثير من الدول خارج النصف الغربي، فضلاً عن ذلك، كان التطبيق العملي للنظام الرأسمالي مختلفاً تماماً عن النظرية الرأسمالية، لذا كان البحث عن نظام بديل مستمر ولم يهدأ أبداً، وبالرغم من أن أنهيار الأشتراكية أدى بعض دعاة الرأسمالية المتطرفين للأحتفال بما أسموه (نهاية التاريخ)، ولكن بعد فترة قصيرة من انهيار الأشتراكية، واجه العالم أزمة اقتصادية عالمية رأسمالية حادة، مما أدى إلى صرخة عالية تدعو للمطالبة بنظام اجتماعي-اقتصادي جديد ولقيت تأييد حاد، ولهذا ناقش هذا البحث المستقبل المحتمل للرأسمالية في ضوء الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.

من أجل أن يكون لأي فرد رأي في مستقبل النظام الرأسمالي، على ذلك الفرد فهم الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية العالمية، ولعل المشكلة تكمن، وكما تم ذكره سابقاً، في أن جميع المحللين الذين حاولوا شرح أسباب الأزمات الأقتصادية العالمية كانوا ذو طبيعة تقنية، وشروحاتهم ربما تعطي بعض المساعدة خلال مدى قصير من الزمن، ولكنها عديمة القيمة على المدى البعيد.

يحتاج نظام أصيل جديد إلى نقاش كامل وعميق حول أسس بناءه، وبمعنى آخر، لا بد من مناقشة جميع أفكار الحركة الأنكلو سكسونية المستنيرة ومبادئها، وليس من المهم مدى القسوة التي يتم أنتقاد الرأسمالية فيها، ولكن في نهاية المطاف فأن نتائج الانتقادات ستكون غير متوقعة، وعلى كل حال، يؤمن الغرب أنه رغم كل قصور الرأسمالية فأنها نظام أساسي آمن أزدهاره خلال القرون الماضية، مهما قالت النظرية الأمبريالية، وفي النهاية، هناك دائماً جدال مستمر أنه لن يتواجد نظام أفضل من الرأسمالية.

ُتطالب الجهات الداعية للتغيير بنظام رأسمالي أكثر أنسيابية، وأكثر أنسانية، واقل أنانية، وأقل طمعاً، وأقل تنفيراً وهكذا، والسؤال الحرج المطروح هو كيف ستتحقق هذه الأهداف؟ وما معناها؟ وكيف يمكن تحقيقها في ظل نظام وأفراد ومؤسسات يتبنون الأفكار السابقة ذاتها؟ هل وضع أنظمة جديدة سيجبر المجتمع على تطبيق النظام الجديد؟

في سنوات ماضية، أعتمد الأشتراكيون على التخطيط المركزي بدلاً من السوق لتوزيع المصادر، وعندما سألهم الرأسماليون "من يخطط المخططون who plans the planners'?؟" ، ولهذا فالسؤال ذاته يكرر للمرة الثانية "من ينظم المنظمون who regulate the regulators'?؟"

لا شك أن النظام الرأسمالي كاقتصاد سوق ، يعطي بعض القدر من الحرية ويتمتع بمستوى ما من المرونة التي تؤدي إلى بعض الحركة، وبما أنهم يعرفون ذلك، فأن المصلحين –مهما كانوا- سيحاولون الأعتماد على هذه الصفات كأسس ، ثم سيحاولون أدخال مزيج من الاصلاحات المالية والنقدية والمؤسساتية مع التركيز على التعليم والصحة.

وعندما سيهدأ الغبار، سيبدأ المال بالتدفق بغض النظر عن نسبته ومقداره، وسيبدأ الإحصائيون بالحديث عن معدلات مشجعة لنمو الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم ، بسبب الإصلاحات المذكورة ، وهكذا سيتم أعلان وصول 'الرأسمالية الجديدة بواسطة شخصية من بعض ذوي الرتب العالية.

قبل الختام، لابد من القول أن الرأسمالية تعرضت للطعن بسبب العديد من نقائصها، وتم تحديها من قبل الاشتراكية التي لم تكن منافساً كفوءاً، كما استطاعت الرأسمالية وحتى الآن، النجاح نسبيا وأحتواء نقائصها، والسؤال الذي ينبغي طرحه هو ما ستفعله الرأسمالية لو واجهت تحديا آخر من نظام لسوق جديد؟

وللجواب على ذلك، فالنظام الراسمالي مبني على التحدي، ولهذا يحتاج منافس فعال يستطيع المحافظة على الوضع القائم نفسه تقريبا مع بعض الاصلاحات أو التغييرات، والاقتصاد الإسلامي هو مرشح جيد في الواقع، لا لشيء إلا لأنه هو الآخر نظام سوقي ، ناهيك عن مزاياه الأخرى، وبالتالي ، ولصالح الإنسانية، فلا بد من رعاية نظام الاقتصاد الاسلامي، ليس لمجرد تنافسه مع الرأسمالية ، لأن الإيمان يمكن كشفه ولكن لا يمكن فرضه، ولكن من أجل إجبار الرأسمالية أن تكون أكثر إنسانية.

السيرة الذاتية للدكتور أحمد العوران

الدرجة العلمية: أستاذ مساعدالجامعة: قسم إدارة ألعمال، كلية إدارة الأعمال، الجامعة الأردنية
الشهادات
-بكالوريوس في إدارة الأعمال، جامعة أستادول دي لوندريا، البرازيل (1978)
- ماجستير في الهندسة الصناعية، الجامعة الفيدرالية في سانت كاترينا، البرازيل (1983)
-ماجستير في الاقتصاد، جامعة ألينوز، الولايات المتحدة (1987)
-دكتوراة فلسفة في الاقتصاد، جامعة الينوز، الولايات المتحدة (1990)
الأختصاص
الاقتصاد الهندسي وتحليل النظم، الاقتصاد الاسلامي، المؤسسات الاقتصادية والسياسات الاقتصادية
اللغات: العربية، الأنكليزية، البرتغالية البرازيلية، الأسبانية
المواد التي درسها
-مباديء الاقتصاد الكلي والجزئي
- نظريات الاقتصاد الكلي والجزئي
- الاقتصاد الاسلامي
-التطور الاقتصادي
البحوث
نشر 24 بحثاً اقتصادياً في مجلات أمريكية وأوربية
الكتب

المؤتمرات العلمية
شارك بأبحاث في عشرة مؤتمرات اقتصادية عالمية (1995-2009)
المناصب الأدارية
- رئيس قسم الاقتصاد 2007
- مدير مشروع المساعدة الأوربية
- نائب عميد كلية التخطيط والادارة (2001-2002)
- استاذ زائر لعدد من الجامعات الأوربية والأمريكية (1991-1997)