نحو بيئة اجتماعية أكثر أماناً للنساء في الأردن

2020-01-04

إن إنكار ظاهرة التحرش بين الجنسين، هو أحد أنماط الإنكار السائدة في المجتمع تجاه الكثير من المواضيع. فعندما نتحاور في مجتمعاتنا العربية في مواضيع تتعلق بالاقتصاد أو الاجتماع أمام الأضواء،فإننا نسشعر تفاوت مساحة التعبير والمصارحة ، خلافا لما يُقال خلف الأضواء.

إن الاعتراف بالمشاكل المجتمعية يحتاج إلى نوع من الشجاعة، ونوع من الوعي والرغبة بالتغيير، فلا نستطيع أن نعترف بوجود المشكلة إذا لم تكن لدينا الرغبة بالتغيير. ونحن إذ نتحدث عن مشكلاتنا، فليس لأننا نحب الحديث عنها، ونستمتع بجلد أنفسنا ، بل يأتي الحديث عن مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية لأننا نرغب في تحقيق التغيير.

لا يقتصر التحرش على الفرد والمجتمع ، فهناك أيضًا تحرش سياسي ودولي، فالولايات المتحدة تتحرش بنا، وإسرائيل تتحرش بنا، والشخص المتنفذ يتحرش بالإنسان البسيط، فالتحرش لا يقتصر فقط على الرجل والمرأة والجوانب الجنسية، بل يبدو أن التحرش في العالم العربي يمثّل مشكلة كبيرة أكبر مما نتصور.

بالنسبة لمفهوم التحرش، نتساءل: هل أي كلمة أو أي سؤال يوجهه الرجل للمرأة يمكن اعتباره تحرشًا؟ ففي بعض المجتمعات لا تُعدّ الكلمة تحرشًا، في حين يعتبر كذلك لمجرد السؤال عن الاسم في مجتمعات أخر ى، فحتى وقت قريب، كُنتَ لا تستطيع سؤال شخص عن اسم أمًه، حيث يعد ذلك عيبا وتدخلًا في خصوصية لا تقبل النقاش .

إن المتغير الثقافي له دور، ففي تونس مثلًا، المجتمع منفتح، وهنا نلحظ كيف أن قضية الانفتاح والحقوق والديمقراطية، قد أدّت دورًا، وتركت أثرًا كبيرا، حيث مكّنت المجتمع التونسي من انتخاب أستاذ جامعي لا ينتمي لأي حزب ليصبح رئيس جمهورية. إذاً هناك علاقة بين الجانب الثقافي والجانب الحقوقي والديمقراطية والإصلاحات، فهي عبارة عن حزمة كاملة "بكيج واحد".
يتأثر مفهوم التحرش بالجانب الثقافي والعرفي، فهل يمكن اعتبار التعجب من عمر الفتاة غزلًا أو تحرشًا أو "حركشة"؟ فالمعنى الذي تأخذه بعض الكلمات في مجتمع لا تأخذه بالضرورة في مجتمعات أخرى.

بحثت في القرآن الكريم محاولًا معرفة ما إذا كان القرآن يحتوي على رصد لمشكلة التحرش، وما إذا كانت هذه المشكلة موجودة في المجتمع الإسلامي المبكر. فكانت الاجابة: نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) . صدق الله العظيم. ما سبب نزول هذه الآية؟ نحن نعلم أن مجتمع المدينة المنورة كان مجتمعًا أكثر انفتاحًا من مجتمع مكة، بسبب التباين الثقافي بين الثقافة الزراعية والثقافة الرعوية والتجارية. فقد كان بعض شباب المدينة من الأنصار، يتحرشون ببعض النساء ظنا منهم بأنهن من الجواري، أي مملوكات، والجارية في ذلك الوقت، كان يُعتقد بأن التحرش بها أمر طبيعي ، فموضوع الجواري لم يكن محسومًا وقتذاك ،بل وحتى اليوم، نجد هناك من يحنّ لذلك الوقت، لذلك نزلت الآية القرآنية حتى يظهر أن هؤلاء النساء حرائر.

إذًا، المجتمع الإسلامي المبكر، كان فيه من المشكلات ما لم يكن موجودا لدينا اليوم، إن تصور المجتمع الإسلامي باعتباره مجتمعا ملائكيا لا أخطاء فيه ، هو من الأخطاء الكبيرة التي جعلتنا لا نعرف كيف نطور مجتمعاتنا. ولعلّه من الأشياء الجميلة في القرآن، أنه يؤكد على وجود مشاكل وأخطاء في مجتمعات التنزيل ، مثال ذلك عندما يقول القرآن "عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ "(التوبة:43) فهذا العتاب، هو نوع من المراجعة الاجتماعية لأخطاء المجتمع، وعليه فإن المراجعة المستمرة لأخطاء المجتمع ظاهرة صحيّة.

الفكرة الأخرى التي أريد الإشارة إليها أنه عندما نتحدث عن التحرش، نضع دائمًا الرجل في موقع المجرم، والمرأة في موقع الضحية، وهذا صحيح غالباً. ولكن قد يكون التحرش أحياناً، لسبب أو لآخر، صادرًا من المرأة، والمسؤولية فيه تقع على المرأة أو على الطرفين . وفي القرآن الكريم، هناك آية تقول: (...يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) صدق الله العظيم. هذا يعني أن الخضوع وإعطاء نوع من الليونة بطريقة يُقصد منها الاستفزاز والإجتذاب، يقع على مسؤولية المرأة، والمفروض أن تعالج التربية هذا البعد، فكما أنه يتعين تربية الشاب على التهذب في التعامل المرأة ، كذلك يجب أن يكون سلوك المرأة بعيدا عن قصد استفزاز الرجل كما يقول بعضهم "الرجل كالولد الصغير يمكن لأي امرأة تأخذ بيده !؟ ". كذلك يمكن لكثير من الرجال أن يكونوا سطحيين في انفعالاتهم الغريزية.
إذًا المشكلة ليس اجتماعية فقط فهي نفسية ، بل واقتصادية كذلك ، فالشاب الذي يصل إلى سن 40 سنة دون زواج، في ظل كل ما نشاهده هذه الأيام، نستطيع أن نُدرك أين يقف. الجانب الاقتصادي إذًا هام جدًا، وبالتالي قد لا يستطيع الشاب الذهاب في الطريق الصحيح، وفي مصر مثلا ، تتكرر مشكلة التحرش كثيرًا، والسبب هو الوضع الاقتصادي. أما التربية الدينية، فرغم أهميتها لكن هناك أمور أخرى لا بد من أخذها بالاعتبار.

ومن باب الفكاهة أحيانا عندما نحدث بعض الشباب عن الحديث النبوي (يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فإن بعضهم يرد: انذبحنا من الصوم!؟.
القضية أن الرجل أيضًا لديه تحديات وعواطف، بالتالي فإن معالجة المشكلة تأتي من أكثر من زاوية. والنظر إلى أن الرجل بأنه قادر على معالجة مشكلته تربوياً ودينياً دون توفير عمل شريف ، وتوفير طريق مشروع لهذه الاحتياجات الإنسانية،هو أمر أقرب إلى المستحيل.

التحرش بالمرأة له علاقة بالصورة النمطية للمرأة، وبموضوع التمييز بين الرجل والمرأة ،فالنظر للمرأة على أنها كائن أقل من الرجل،لا يختلف من حبث قبحه الاخلاقي ، من التعامل الاستعلائي مع عامل وافد جاء من الخارج يبحث عن الرزق الحلال، فيتحدث بعضهم معه وكأنه أقل كرامة منه، ولا يُعطى له الحقوق نفسها. كذلك يتحدث البعض مع المرأة على أساس أنها ليست كالرجل، وأن الرجل أكمل عقلًا، وأكمل دينًا. وهنا أود الإشارة إلى أننا بحاجة لفهم بعض المرويات التراثية المنسوبة الى الاسلام بطريقة صحيحة وعميقة.

هناك من قال إن فهم وتفسير القرآن ينحصر بالسلف ، وإذا كان الأمر كذلك، فالدين للسلف فقط وليس لنا. وما دام الدين يخصنا، فنحن لنا دور في تفسيره. ومع الأسف، توجد اتّجاهات متشددة تقول إن المرأة لا يجوز لها أن تخرج للعمل، وإن صوتها عورة. وأن عليها أن تضع إصبعها في فمها أو ثوبها في فمها لأن صوتها مشكلة، وهذه الطريقة تزيد المشكلة وتقنع البعض بأن المرأة هي عبارة عن كتلة من الجنس.

بالنسبة للعقل، ما به عقل المرأة؟! هناك روايات لا بد أن نعيد فهمها؛ فالسيدة عائشة عندما سمعت أحدهم يقول " يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ "، اعترضت و قالت:" شَبَّهْتُمُونَا بِالحُمُرِ وَالكِلاَبِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً " .وبالتالي وجد في تاريخنا الاسلامي قيادات نسوية تدافع عن حق المرأة . والنبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع "ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم". إذًا النظر للمرأة على أنها ناقصة عقل وفهم ودين وأنها كائن مليء بالشهوات، هو امر مغاير للصواب.

وحتى قضية ضرب المرأة والاستدلال بالآية : (...وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ..) . يمكن أن نفهم هذه الآيات بأنها جاءت في مرحلة من مراحل تطور التشريع ، مثل الخمر عندما قال (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) ، وعليه نحتاج في مرحلة معينة استيعاب مسألة تدرج التشريع، وبعض العرب في ذلك الزمان كانوا قد اعتادوا على العنف مع زوجاتهم، ولذا فهم كانوا بحاجة للتدرج التشريعي. ولذلك نجد الآية الأخيرة (...وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا...) وحديث آخر (إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) رواه أبو داود.

هناك أيضًا عدم قدرة لدى البعض على الفهم الصحيح للمفاهيم الإسلامية، مثل مفهوم القوامة. ويجب علينا أن نعيد فهمنا لمكانة المرأة بطريقة صحيحة، ونوقف التمييز. قد لا نستطيع وقف التمييز في كل المجالات، لكن يجب أن نبدأ بمراجعة صحيحة ودقيقة ومنصفة دون أن نخشى على مكاسبنا الذكورية ، فعندما يجري الحديث عن تعدد الزوجات،يبرر ذلك بالقول إن نسبة النساء أكثر من نسبة الرجال، في حين أنه وعند الحديث عن الديمقراطية ، فإننا لا نقول لماذا لم تأخذ المرأة من التمثيل ما يناسب كونهن أكثر من الرجال عددا !، فلماذا لا يتم استخدام المسطرة نفسها في الحالتين.

إننا بحاجة إلى المصارحة، فما نقوله في وجوه بعضنا أفضل مما نقوله في ظهورهم. يقول الشاعر :
عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَرِ لَكِن لِتَوَقّيهِ وَمَن لَم يَعرِفِ الشَرَّ مِنَ الخَيرِ يَقَع فيهِ.

بالتالي نحن بحاجة لمعرفة مشاكلنا مهما كانت قبيحة،وأن لا تجعلنا الورع السطحي ، وعقدة المرأة نهرب من معالجة تلك المشكلات ، كما فعلت إحدى الفرق القديمة "الحابطية" تقول بان سورة يوسف ليست من القرآن لأنها ذكرت "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ ". فلم يستوعبوا صراحة القرآن في ذكر ما حدث من تحرش جنسي من قبل إمرأة العزيز بيوسف عليه السلام . إن هذا نوع من الورع هو شكل من أشكال الانسحابي وعدم الاعتراف بمشاكلنا. فما زال البعض يخبئون عيوبهم تحت فكرة الستيرة، بينما يجب أن نعترف بمشاكلنا لنجد لها حلولًا، كما هو الحال في عدم الاعتراف بمشكلة انضمام قرابة ثلاثة آلاف أردني لداعش.!
فيما يتعلق بطلاب الجامعات، أعتقد أنه من المهم أن تكون هناك دراسة مستقلة لطلبة الجامعات، ولو أنني اعتقد أن الطلبة داخل أسوار الجامعة يشعرون بالمسؤولية ، وأن هناك عقوبات، وغالبًا أظن أن نسبة التحرش ستكون أقل، فالشعور بعدم وجود العقاب يزيد من الخطأ عادة.

لا بد من تعزيز الجانب الأخلاقي في مناهجنا التعليمية ، فاليابانيون في مدارسهم يدرسون الأخلاق ولا يدرسون الدين ،ونسبة الجرائم عندهم أقل بكثير من مجتمعات تدرس الدين من الروضة ، نعم من المهم تدريس الدين ولكن يجب التركيز على الأخلاق. وكما قال ابن قيم الجوزية "الدين كله خُلق، فمن فاقك في خلقه فاقك في دينه". وجاء في الحديث " مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ ) " صحيح الترمذي". .

وفي موضوع الحجاب ،نعود فنقول بأن الحجاب لا يمثل بالضرورة نمطا معينا من اللباس بقدر ما يمقل قيمة تشعر المرأة من خلالها بنوع من المسؤولية الأخلاقية في سلوكها الإجتماعي، وهنا لا بد للمحجبة أن تدرك القيمة الأخلاقية والتربوية للموضوع ولا تقف عند مساحة القماش التي يجب أن تستعملها .
____________________________

الآية رقم (59) من سورة الأحزاب.
الآية رقم (32) من سورة الأحزاب.
الآية رقم (34)، سورة النساء.
الآية رقم (67)، سورة النحل.
الآية رقم (17) سورة النساء

https://www.alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=2464