A+ A-
الحقبة الديمقراطية الأخيرة وأحزابها المحافظة أحزاب الوسط ومأزق البطريريكية في العمل السياسي

2003-05-10

إذا كانت الأحزاب السياسية التاريخية في الأردن قد انتمت لتيارات عقائدية، من إسلامية ويسارية وقومية، فإن أحزاب الحقبة الديمقراطية الأخيرة، قد تميزت بطابعها التقليدي المحافظ، ولم تنجح في اجتياز استحقاق بناء أحزاب حديثة، بالمعنى العصري للكلمة، تحتفظ ببرامج سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، وتستند إلى منظومة من البنى والمؤسسات التحتية، تديرها حكومة ظل تتتبع الحكومات وتتقدم ببرامج وخطط وسياسات بديلة لها وعنها. وهي بهذا المعنى، لم تختلف عن الأحزاب العقائدية التي طالما جادلتها ووجهت إليها أصابع النقد والاتهام لتخلفها عن تقديم البرامج والروئ الوطنية، والاكتفاء بإطلاق الشعارات "الفوق ثورية"...وهي بهذا المعنى أيضا لم تقدم نماذج مختلفة في تمثل قيم الديمقراطية ومناهجها في العمل السياسي والحزبي العام.

وتفترض هذه الورقة، أن هذه الأحزاب امتلكت الفرصة الكافية لاجتياز امتحان الجدارة والاستحقاق...فاستئناف التجربة الديمقراطية الأردنية مضى عليه عقد ونصف العقد من الزمان، وقانون الأحزاب السياسية الأردنية مضى على إقراره ما يزيد عن العشر سنوات، على أن هذه التجربة ما زالت تواجه بإشكاليات ولادتها الأولى.

والراهن أن تاريخ الأردن، منذ الإمارة، شهد ولادة أحزاب سياسية أردنية محلية، لم ترتبط بتيارات إيديولوجية عربية أو أممية، ولم يكن لنشأتها علاقة وثيقة، أو بالأحرى سببية بمجريات الوضع على الساحة العربية... حدث ذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن الفائت، وتكرر من جديد في أواسط الخمسينيات، وها نحن نعود اليوم لنشهد على ولادة تجربة جديدة.

وقد تميزت أحزاب الحقبة الديمقراطية، عموما بطابعها المحافظ وبعضها اتخذ منحى يمينا إقليميا،، فرجالاتها المؤسسين في الغالب الأعم تخرجوا من السلك البيروقراطي للدولة الأردنية، ومنهم نشطاء في البنى التقليدية للمجتمع الأردني – العشائر والعائلات الممتدة – وبعض رجال المال والأعمال الذين تطلعوا للعب دور سياسي مواز لدورهم الاقتصادي، كما ضمت لوائح مؤسسي هذه الأحزاب شخصيات سعت للعودة إلى الوظيفة العامة أو تطلعت لها ، ورأت في بعض أحزاب الوسط، مدخلا مناسبا لذلك.

ولم تختلف هذه الأحزاب في بنيتها التنظيمية، عن البنى التقليدية التي ينهض عليها المجتمع الأردني، فالشخصية المحورية للزعيم المؤسس، هي شخصية أبوية مقررة، تدور في أفلاكها سياسات الحزب وكوادره، وتتقرر في ضوء توجهاتها الشخصية ، التوجهات العامة للحزب، بل أن علاقة كثير من هذه الأحزاب مع الحكومات المتعاقبة، انحكمت إلى حد بعيد بعلاقات "الأمين العام" بالحكومات معارضة ومولاة، توزيرا أو إبعادا عن مواقع المسؤولية.
وإذ تشدد هذه الأحزاب على وصف نفسها بالوطنية، بدلا عن الوسط والوسطية، فإنها بذلك تبحث عن تميز خاص بها عن بقية الأحزاب العقائدية، بل ولكأن بعضها ينزع عن بعض الأحزاب الأخرى، صفة الوطنية ، ويرميها بالتبعية للخارج، دولة كانت أم فصيلا أم جماعة عالمية.

على أن تصنيفا كهذا فيه من التعسف والاجتزاء الشيء الكثير ... فالهوية الإيديولوجية لحزب ما لا تنزع عنه صفة الوطنية بحال من الأحوال، حتى وإن كانت إيديولوجيته ذات طبيعة قومية أو إسلامية أو كونية ... كما أن إلصاق صفة الوطنية بحزب أو تيار لا يعطيه ميزة على غيره ، إلا بالقدر الذي تعبر فيه برامجه وسياسياته وممارساته، عن الاهتمام العميق بقضايا الوطن والمواطنين وأولوياتهم.

ويذهب الحديث عن "وطنية" هذه الأحزاب، وجهة أخرى في البحث والتحليل، فكثير منها نشأ على أسس جهوية – مناطقية – إقليمية...وحمل على أكتافه أفكارا ورموزا لم تشتهر ولم يشتهروا بتخففهم من النزعات الإقليمية الضارة بنسيج المجتمع وبنيان وحدته الوطنية. ويفضل بعض هذه الأحزاب أن يطلق على نفسه وصف "البرامجية"، في دلالة على اختلافه عن "الأحزاب الشعاراتية"، الأمر الذي يدحضه غياب برامج هذه الأحزاب، وتذبذبها بين معارضة الحكومات وموالاتها وفقا لاعتبارات لا تتصل أبدا بالبرامج والطروحات.

وتفترض هذه الورقة، وللأسباب السابقة، أن هذه الأحزاب ظلت أبعد ما تكون عن الديمقراطية الحقيقية في العمل الحزبي، فالديمقراطية والبطريركية نقيضان لا يلتقيان، والديمقراطية لا تزدهر حيث تزدهر البنى التقليدية للقيم والعلاقات والروابط.
ولأنها أحزاب بطريركية في الغالب الأعم ، فقد غابت عنها المؤسسية، غابت المساءلة والمحاسبة والصراعات الديمقراطية في داخلها، فوجهة النظر المعارضة تدفع بأصحابها إلى خارج صفوف الحزب في لمح البصر، وما الحراك بين هذه الأحزاب وكوادرها إلا تعبير عن ضيق عباءة الزعيم بالتعددية والمؤسسية. ويزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لهذه الأحزاب، أن الزعيم المؤسس، هو الممول الرئيس للحزب... فالحزب ملحق به ماليا أيضا، ومن امتلك المال امتلك القوة والنفوذ ومفاتيح القرار والحل والعقد.

ولم يقتصر غياب المكون الديمقراطي على الحياة الداخلية لهذا الأحزاب، بل أنها انتهجت سياسات ومواقف لا تصب أبدا في باب توسيع هوامش الحرية والديمقراطية ... وقد اختبرت زعامات كثير من هذه الأحزاب في مواقع المسؤولية أو خارجها، وكانت مواقفها وممارساتها لا تصب الحب أبدا في طاحونة تطوير المسار الديمقراطي الأردني.

وتأسيسا على كل هذا وذاك، كانت تجربة الأحزاب الوسطية المحافظة في الأردن، نموذجا للتشقاقات الناجمة عن "صراع الديكة والرؤوس" في أوساطها، فالأحزاب تتوحد لحظة لقاء الزعامات وتوحد مصالحها، وتعود لصيغتها الأولى عند أول احتكاك بين الرؤوس والرموز، وعند أول تضارب للمصالح.

وتأسيسا على ذلك أيضا، تعددت هذه الأحزاب على نحو لا يمكن تسويقه أو تسويغه سياسيا أو برامجيا... فخريطة هذه الأحزاب تكاد تتطابق مع خريطة التوزيعات الجهوية والمناطقية لزعمائها وقادتها، بل أن معظمها ظل "حلقات تدور في فلك الزعيم"... ولعل تجربة حزب المستقبل بعد رحيل مؤسسه المرحوم سليمان عرار، أوضح دلالة على ارتباط مصائر هذه الأحزاب بمصائر زعمائها الأفراد.

وتعطي الانتخابات النيابية مؤشرا على مكانة الحزب لدى أعضائه وقيادته... فالحزب في اللحظة الانتخابية الحاسمة يرتد لصالح العشيرة إن لم يتماهى مع حدود ولايتها... وزعيم الحزب، غالبا ما يخوض غمار معركته الانتخابية كمرشح للعشيرة، وإذا كان هذا الحال ينطبق على كثير من المرشحين، حتى من الأحزاب العقائدية، إلا أنه يظهر كحالة نافرة في تجربة الأحزاب الوسطية.
وإذ تفتقر معظم هذه الأحزاب لرؤية منهجية شاملة في العمل السياسي، فإن من الصعب التنبؤ بمواقفها سلفا... فهي ترتضي تارة أن تكون ذراعا لهذه الحكومة، وتصطف تارة أخرى في مقاعد المعارضة، وفي كلتا الحالتين، لا يكون الاصطفاف خلف الحكومة أو الانفضاض عنها محكوما بدوافع سياسية وبرامجية وطنية، بل لحسابات شخصية تتصل بالدور والمكانة، بل وبما يمكن إبرامه من صفقات هنا وهناك.

ولأنها كذلك، فإن من الصعب تماما أن تجد خطابا موحدا أو منهجية واحدة في التفكير حتى لدى الحزب الواحد منها... فهي روابط نشات على أسس شخصية بالأساس، ما يسمح بوجود مختلف التلاويين في أوساطها، من العرفية إلى الليبرالية... الأمر الذي لا يمكن تفسيره بتسامح هذه الأحزاب وتعدديتها، بل بغياب المنهجية والرؤى والمرجعيات الفكرية المتوافق بشأنها لدى جمهرة مؤسسيها وأعضائها.

وإذا كان الحزب الوطني الدستوري قد لعب دور العمود الفقري في تجربة أحزاب الوسط خلال العقد الفائت، إلا أن ذلك لم يمنع من رؤية المصائر الصعبة التي آل إليها الحزب بسبب تشققاته وأزماته... كما أن ذلك لم يمنع أيضا تكاثر أحزاب الوسط التي لا بالكاد تنطبق على معظمها شروط الترخيص المقررة في قانون الأحزاب السياسية

 

-ورقة عمل قدمت الى ندوة "الاحزاب السياسية الاردنية ...الواقع والطوح" التي نظمها مركز القدس للدراسات السياسية بتاريخ 10-11/ايار2003 الاردن-عمان.